المصارف الإسلامية في مواجهة العولمة
تمثل العولمة ( GIobaIization ) تحديا حقيقيا للمصارف في دول العالم الثالث عموما، وبشكل خاص للمصارف الإسلامية؛ ذلك أن العولمة – بوصفها: إتاحة تبادل السلع والخدمات ورؤوس الأموال والأفكار والمعلومات بين دول العالم دون قيود – تشكل تحديا اقتصادياً للبنوك التجارية في العالم الثالث بالدخول في منافسة غير عادلة مع البنوك المحلية، كما تشكل تحدياً ثقافيا للبنوك الإسلامية خصوصاً لما تملك المؤسسات المالية الكبرى من نفوذ وأدوات تنظيمية وإدارية واقتصادية ستؤثر حتما على منتجات البنوك الإسلامية.
إن إشكالية العولمة تكمن في نفوذها الثقافي، حيث إنها تُصَدر نوعا محدداً من الثقافة والفكر والرؤية باسم العولمة إلى العالم أجمع، وعند التحقيق فإن ذلك الفكر إنما يمثل الأنموذج الثقافي الغربي ولا يمثل العالم كما هو المتبادر من المصطلح، فالرأسمالية وتمكين حرية رأس المال ليست ثقافة عالمية من حيث الأصل وإنما هي رؤية غربية خاصة مدعومة بمؤسسات دولية تسيطر عليها دول الغرب، وليس الخلاف الثقافي مع العولمة خاصاً بالعالم الإسلامي فقط وإنما هو موجود أيضاً لدى الشرق عموماً كما في الصين وأغلب الدول الدائرة سابقاً في فلك المنظومة الشيوعية، وهو موجود أيضاً في الدول الفقيرة في أفريقيا وغيرها التي رأت في العولمة غولا يلتهم مصالح الأغلبية الفقيرة فيها ويجرهم بغير اختيار إلى التحول إلى أسواق للمنتج الغربي.
تعلن العولمة مبادئها بالسماح بتبادل السلع والخدمات والأفكار؛ لكنها عند التطبيق العملي تفرض تصدير المنتج الغربي إلى البلاد الشرقية والإسلامية، ويضيق عطنها بالتصدير العكسي للسلع والخدمات والأفكار، فالعمالة الشرقية التي تطالب بفتح الأسواق الغربية لها مرفوضة، والثقافة الإسلامية محاربة في الغرب في مظاهرها تحت شعارات مختلف منها على سبيل المثال: حماية العلمانية ومعاداة السامية ومحاربة الإرهاب ، إلا أنه مع كل هذا فنحن أمام مواجهة اضطرارية وليست اختيارية مع العولمة كواقع مدعوم بمؤسسات دولية مثل منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرها من المؤسسات الداعمة لفكر العولمة، وبناء عليه فإن مقتضيات هذه المواجهة هو رسم معالم الطريق أمام المؤسسات الوطنية لمواجهة هذا الطوفان الذي نزل بساحتنا في منافسة اقتصادية لا هوادة فيها.
تمثل المصارف في كل دولة عصب الاقتصاد فيها ، وسقوطها وانهيارها يعني انهيار الاقتصاد الوطني، ولذلك فإن العناية بهذا القطاع وحمايته من أهم المهمات، والمصارف الإسلامية في العالم الإسلامي مثلت التميز في العمل المصرفي الوطني، واستطاعت بهذا التميز أن تتفوق على المنافس المحلي في كثير من الأحيان، وألجأت المنافس المحلي بل والأجنبي إلى أن يسايرها في منتجاتها ويعدل من منتجاته بما يوافق مبادئها بغرض المنافسة وهو ما يثبت أهمية الحفاظ والدعم لهذه المصارف كونها تمثل قيمة تنافسية كبيرة جدا في السوق المصرفي في كل دولة .
ومع طغيان العولمة فإن المصارف الإسلامية تواجه حالياً تحديات كبيرة تتطلب من الأمة بدولها والمختصين فيها إلى تقديم الدعم الاقتصادي والفكري والإداري لهذه المؤسسات لتكون قادرة على الحفاظ على حصتها في السوق وفيما يلي أبرز هذه التحديات مع مناقشتها وبيان ما تتطلبه ضرورة الحال من واجب لتجاوز تلك التحديات حفاظاً على هذه المؤسسات:
1. سيادة نظرية الائتمان في العمل المصرفي التجاري، وصياغة النظام المصرفي العام وجميع المنتجات المصرفية على أساسه واعتبار توليد النقد من النقد هو خلاصة الفكر المصرفي الحديث، بينما ترفض المصارف الإسلامية قِيَمِياً هذا المبدأ وتحاول استبداله بعدة مبادئ مثل المشاركة والبيع والتأجير … إلا أن هذه المبادئ ما تزال تعاني من إشكالية ارتفاع التكلفة وارتفاع مستوى الخطورة وهو ما يؤدي ضرورة إلى رفع كلفة التمويل (الاقتراض) من البنوك الإسلامية بالمقارنة بالبنوك التجارية.
وهذه الإشكالية أعني سيادة نظرية الائتمان تستلزم من الفقهاء المسلمين والمختصين في الاقتصاد والمالية أن يتحولوا من موقفهم الحالي الذي هو في حقيقته استيراد الوسائل والآليات وإعادة انتاجها بما لا يتعارض مع القيم الإسلامية في الظاهر أن يتحولوا من هذا الموقف إلى موقف الإبداع وإيجاد النظريات وليس الآليات التي يمكن أن يبنى عليها الاقتصاد الإسلامي بل الاقتصاد الدولي بأكمله.
إن فكرة البنوك بصورتها الحالية قد عرفها المسلمون من خلال القرض المضمون حيث ثبت أن الزبير بن العوام كان الناس يودعون عنده الأموال فيقول لأحدهم: هي قرض متى رغبت دفعتها لك، وكان يقترض منهم في المدينة ويكتب للوفاء لهم إلى وكيله بالشام ، وقد نص بعض الفقهاء على أن اقراض مال الوقف عند المليء أولى من إيداعه؛ قالوا لأن القرض مضمون بكل حال بخلاف الوديعة فلا تضمن إلا بالتعدي أو التفريط … ، إلا أنه لا يصح الجمود على تلك الصور وليس هذا هو المقصود من إيرادها؛ بل المقصود هو بيان أن السلف لم يتوقفوا عن تطوير تعاملاتهم بحسب الاحتياج، وأنهم كانوا يستصحبون القاعدة التي أجمعوا عليها وهي ( الأصل في المعاملات الحل ) في اجتهاداتهم.
2. إشكالية الارتباط الدولي على مستوى التشريعات المصرفية، وهي إشكالية نشأت من خلال المؤتمرات الدولية التي تفرض على الدول الالتزام بمعايير محددة الهدف منها حماية النظام الاقتصادي العالمي، وهذه المعايير قد تعارض قيم المصارف الإسلامية أو تحد من نشاطها أو تفقدها التميز الذي تسند عليه في تسويقها لمنتجاتها.
3. ضرورة ارتباط المصارف الإسلامية بالبنوك والمؤسسات المالية الأجنبية، اقتصاديا وتقنياً، وهو ما يترتب عليه ضعف موقف البنوك الإسلامية لاضطرارها إلى مسايرة البنوك الأجنبية في أنظمتها، وما يتبع ذلك من تنازل البنوك الإسلامية عن بعد المحددات القيمية لأعمالها أو تكبدها كلفة إضافية للحفاظ على تلك المحددات، ولا يمكن فك الارتباط بتلك المؤسسات لأنه سيعكس أثرا سلبيا على العمل المصرفي في البنوك الإسلامية.
وللتغلب على هذه الإشكالية وما قبلها فإن على الدول الإسلامية أن تضع في حسبانها أن المصارف الإسلامية لديها ميزة تنافسية ليست لدى غيرها من البنوك، وأنها يجب بهذا الاعتبار أن تدافع عنها وعن قيمها حفاظا على هذه الميزة التنافسية، إن البنوك التجارية ربما لن تصمد في مواجهة البنوك التقليدية الأجنبية لكن لدى البنوك الإسلامية ميزة تنافسية وهي الامتثال لأحكام الشريعة وهو ما يجعل المسلمين في مختلف الدول الإسلامية يقدمون التعامل معها على غيرها طاعة لله وسلامة من المشتبهات.
لقد آن الأوان لأن تعلن الدول الإسلامية التحول للمنهج الاقتصادي الإسلامي ولو جزئيا ومرحلياً من خلال التشريعات المتدرجة لتحافظ على الاستثمارات المحلية من التحول إلى البنوك الأجنبية لقوة العروض، وبحجة الربا محرم سواء كان مع بنك أجنبي أو بنك محلي.
4. وجود صناديق التحوط والصناديق السيادية والتي تدفع عالمياً نحو العولمة للوصول إلى الأسواق في كل مكان، وحجم الاستثمارات من خلال هذه الصناديق الهائل يجعل المصارف الإسلامية في وضع حرج أمام ما يمكن أن يقدمه رأس المال الضخم إلى الأسواق المصرفية العالمية، وتشير بعض التقديرات إلى أن قيمة أصول هذه الصناديق في عام 2023 بلغت 12.7 ترليون دولار وفقاً لما هو مدون في موقع أرقام بتاريخ 11/03/2024م وهو ما يشكل منافسة ربما تقضي على المؤسسات المالية الصغيرة ومن ضمنها البنوك الإسلامية.
إن من الحلول التي ينادي بها المختصون في المصارف الإسلامية تبني دمج المصارف الإسلامية في مؤسسات مالية ضخمة واستحواذ المصارف الكبرى على بعض المصارف الصغيرة حماية لها ولتكوين مؤسسات فاعلة قادرة على المنافسة في السوق المصرفي.
5. من التحديات التي تواجهها بعض البنوك الإسلامية إشكاليات الرقمنة للعمل المصرفي وتكاليف ذلك وعدم وجود منتجات خاصة للمصارف الإسلامية وإنما نقل لتجارب البنوك التقليدية وما يرتبط بذلك من تكاليف الأمن السبراني الذي تفرضه هذه الرقمنة.
وهذا الموضوع لا يمكن الاستهانة به بحال؛ لما له من أثر فعال على أداء المصارف، فبينما تعطيك بعض المصارف وقتاً للحوالة يتراوح من 24 على 75 ساعة فإن بعض المؤسسات المالية العالمية تعطيك عشر دقائق لتنفيذ العملية وذلك بسبب التقنيات الإلكترونية المعتمدة في كل مؤسسة.
على الدول الإسلامية أن تهتم بتدريس تلك التقنيات في الكليات النظامية وأن تدعم البحوث والدراسات المتعلقة بها وأن لا تكون في موضع المستهلك لهذه التقنية بل يجب أن تتحول إلى موضع المنتج والمبدع فيها، كما أن على المؤسسات المالية عموما أن لا تبخل في تبني النوابغ من المجتمعات الإسلامية لتبعث بهم في دراسة هذه العلوم ليعودوا للعمل في هذه المؤسسات ويخدموها، وإن متابعة الجديد في هذه التقنيات والاستفادة من ما لدى المنافسين سيكون له الأثر الكبير في تطوير العمل المصرفي في البنوك الإسلامية.
6. من التحديات التي تواجهها المصارف الإسلامية الصراع في البيئة الإسلامية الفقهية والاقتصادية بين منهجية الفتوى ومنهجية التخريج، فمنهج الفتوى يكتفي بإصدار الحكم الشرعي من وجهة نظر المفتي دون البحث عن حاجة الناس العامة لبعض المنتجات، ولا يؤسس لإيجاد بديل مقبول نظاماً وواقعاً، وأما منهج التخريج فهو المنهج القائم على البحث عن تخريج لكل منتج عن طريق الحيل وتلمس الآراء الشاذة لتكون أصلا تبنى عليه معاملات ومنتجات بحجة أنه قد قيل بهذا القول.
ليس دور المفتي أن يقول هذا حلال أو حرام فقط بل المفتي له دور أعظم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ” ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك، فقد يدع واجبات ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع”. وبهذا يتمايز الفقهاء، كما أن الخور والاكتفاء بتتبع الرخص إرضاء للناس فيه هلاك الأمة، ولأن ترتكب المفسدة دفعاً لما هو أعظم منها مع كراهتها والعزم على تركها وعلى التحول إلى القول الحق خير من أن يبرر للناس خطؤهم فيستمرؤونه ثم تضعف أنفسهم وهممهم عن الترقي بل ويطمعوا بمزيد من الرخص والترخيص، نعوذ بالله بن الزيغ بعد الضلال ومن الحور بعد الكور.
خلاصة القول أن على قادة العمل المصرفي الإسلامي من فقهاء ومصرفيون واجب عظيم تفرضه المرحلة وأن لا يغتروا بالنمو الحالي للبنوك الإسلامية فإنه قد يفجأ القوم أمر يذهب بمشاريعهم وما بنوه بسبب التهاون في المواجهة والحرص على المسايرة التي ربما جعلت الأسلمة مكياجاً يضاف إلى المصارف التقليدية لا منهجاً متميزا دعت إليه الشريعة السماوية.
نسأل الله السداد للجميع وصلى الله وسلم على نبينا محمد .