مرجعية السلطة القضائية لتحكيم الشريعة
القضاء والحكم بين الناس بالشريعة الإسلامية هو أحد فروض الكفاية التي يجب على الأمة القيام بها وتحصيلها بتحصيل وسائلها أولا وغاياتها ثانيا ، وقد أجمع أهل العلم على أن ولاية القضاء هي من فروض الكفاية التي إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين ، وقد ذكروا أن من مواضع تعينه على المستطيع: عدم حصول الكفاية، وبالتالي فإن المخاطب بإقامة العدل هو الأمة بأجمعها وإذا حصل التقصير أثم كل من علم الحال وعنده قدرة على الإصلاح، والله المستعان .
وقد جاءت نصوص الشريعة آمرة للأمة بعمومها بإقامة العدل قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) ، وقال: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ، وقال: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) ، وقال تعالى في حكم الوصية والنزاع فيها: (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ) الآية، فأسند الفعل للأمة وليس للإمام لأن الإمام وكيل عنها، ولما ذكر تعالى كفر من لم يحكم بما أنزل الله أشار بجمع اسم الإشارة قال تعالى:
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) ولعل من معاني ذلك لحوق وصف الكفر للجماعة والمجتمع إذا أقرت التحاكم إلى غير ما أنزل الله!
وعنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَقَاضَاهُ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ لَهُ : أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِلَّا قَضَيْتَنِي . فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا : وَيْحَكَ ! تَدْرِي مَنْ تُكَلِّمُ ؟ قَالَ: إِنِّي أَطْلُبُ حَقِّي . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ ” ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ ، فَقَالَ لَهَا : ” إِنْ كَانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرُنَا فَنَقْضِيَكِ ” ، فَقَالَتْ : نَعَمْ ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : فَأَقْرَضَتْهُ . فَقَضَى الْأَعْرَابِيَّ وَأَطْعَمَهُ ، فَقَالَ : أَوْفَيْتَ أَوْفَى اللَّهُ لَكَ ، فَقَالَ : ” أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ ، إِنَّهُ لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ ” . أخرجه ابن ماجه وله شواهد ؛ ووجه الاستدلال هنا من وجهين :
أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للصحابة دوراً في العدالة بقوله: ( هَلّا كُنتُمْ مَعَ صَاحِبِ الحَقّ).
ب- أنه صلى الله عليه وسلم ذم الأمة التي تقصر في إعطاء الضعيف حقه وهو في أعز حال (غَيْرَ مُتَعْتَعٍ)
ولاشك أن مباشرة آحاد الأمة لهذا المقصد العظيم والمهمة الجليلة ( العدل ) في آحادها أمر مستحيل ، بل هو من المفاسد المحضة التي تمنع العدالة ولا تحققها ، فبقي الإنابة في تحقيق هذا المقصد وهي إما بالإنابة المباشرة من آحاد الرعية لولي الأمر، أو بالإنابة إلى أهل الحل والعقد الذين بهم تنعقد البيعة وبهم تحل، والبيعة إنما تتم على العدل لأنها بيعة على الكتاب والسنة وهما غاية العدل، وليس أعدل من إعطاء ما فيهما من حقوق وإنفاذ ما فيهما من أحكام .
والمرجعية في القضاء تعني: الحق في تطبيق شرع الله المنزل على رسوله في الحكم بين الناس وذلك بتحديد الأصول والآليات التي تضمن أن يكون الحكم شرعيا ، وهي بذلك لا تعني منح حق التشريع لأحد؛ ذلك أن هذا الحق هو لله تعالى ولا يكون إلا له سبحانه، وإنما تطبيق ذلك ومتابعته ليكون حكم الله في أرضه، وهذا التطبيق هو حق الأمة بما أخذوا على الإمام من عهد وميثاق في البيعة الشرعية، فالقاضي حينما يحكم بالشريعة فهو يحكم بمقتضى البيعة التي تمت بين الناس والإمام على الكتاب والسنة، وحق الناس وعهدهم الذي أخذوه عند البيعة هو الحكم بالكتاب والسنة، فالحاكم حكم بالشريعة التزاما بالعهد مع الناس ووفاء بالبيعة لهم، فصارت مرجعية القضاء في الحقيقة البيعة التي للناس على السلطان، وأما إذا خالف الشريعة فهو يحكم بمقتضى السياسة وطاعة السلطان، ومرجعيته السلطان الذي يريد ذلك لتقوية ملكه أو لظلم بعض رعيته بأخذ شيء من أموالهم وهو ليس من الحكم بالشريعة ولا من الوفاء بالبيعة التي تمت له مع الناس، ولذلك لا يجوز للقاضي أن يحكم بأحكام السياسة التي تخالف الشريعة ولا تجب طاعة ولي الأمر في ذلك لأنه خلاف عقد البيعة أصلا .
ولا يقول قائل: إن الحاكم إنما يحكم طاعة لله فقط وليس التزاما بالعهد والميثاق، فإن هذا ليس هو موضوع الكلام وإنما المراد هل مرجعية القضاء ( وضع الآليات المحققة لتحكيم الشريعة ومتابعتها ) للسلطان بطاعته لله، أم للأمة بطاعتها لله: والتي يخضع لها السلطان بما أخذت عليه من عهد ؟
وأما كون مرجع الجميع هو حكم الله تعالى فهذا محل اتفاق فليس لأحد خيار شرعاً؛ لكن تحرير المرجعية يفيد في ضبط صلاحيات السلطان أو الخليفة أو الأمير أو الملك في القضاء .
فإذا كانت المرجعية للأمة بعهدها الذي أخذته على الأمير ونحوه، صار الأمر بيدها تعدل فيه كيف تشاء بما يقيم شرع الله ويحفظ مصالحها فللأمة أن تقيد صلاحيات ولي الأمر بأنه لا يعين رئيس القضاة ومجلسه إلا بالانتخاب بين القضاة أو أنه إذا عين القاضي فلا يعزل إلا بمحاكمة عند القضاة ونحو ذلك .
وأما على الثاني فولي الأمر يُفَصِّل الثوب والقضاة يلبسون، والرعية تسمع وتطيع! فهو يفعل ما يشاء يفتتح المحاكم واللجان ويعدل الاختصاصات دون حسيب ولا رقيب إلا ديانته وديانة مستشاريه .
ويتفرع على ما تقدم النظر في القاضي هل هو ممثل للأمة عينه وكيله وهو السلطان للقيام عن الأمة بفرض الكفاية ، أو هو ممثل للسلطان عينه السلطان ليرفع عنه الواجب الذي عليه وهو الحكم بين الناس بالعدل ، والقولان مشهوران في مذهب أحمد ، والذي يظهر صوابه أن القاضي ممثل للأمة عينه وكيلها وهو السلطان ليرفع عن الأمة فرض الكفاية ، وذلك لما يلي:
١- أن الأصل في فروض الكفاية وجوبها على الأمة وان من عينه ولي الأمر ليقوم بها فهو يقوم مقام الأمة في أداء الواجب وإذا حصل التقصير أثم القادرون جميعا وليس ولي الأمر وحده .
٢- أن ولي الأمر وكيل فهو كما قال السلف بمنزلة ناظر الوقف وولي اليتيم ووكيل هؤلاء يتصرف عن الوقف وعن اليتيم لا عن موكله ، فإذا علم أن مصلحة الوقف في غير أما أمره به الناظر لم يجز له أن يفعل ما أمره به وإن فعل كان شريكا له في الضمان
٣- أن القاضي لا ينعزل بموت الأمير أو خلعه أو كفره أو قيام مانع يمنع صحة قضائه أو ولايته ولو كان ممثلا للأمير أو السلطان انعزل بذلك .
٤- أنه عند تولي ملك أو أمير جديد لا يلزم تجديد عقد الولاية للقاضي ، ولو كان وكيلا للأول للزم تجديد العهد من الثاني بعد الموت .
٥- أن هذا هو مقتضى البيعة الشرعية التي لها طرفان موجب وهو الأمة وقابل وهو السلطان ، وصيغة وهي أبايعك على الكتاب والسنة ، ومعناها : على أن تقيم الكتاب والسنة .
ومن فروع مرجعية القضاء للأمة أنه إذا لم يحصل العدل الممكن بتحكيم شرع الله تأثم الأمة بأجمعها ومن له القدرة على تحصيل العدالة الفائتة من أهل الحل والعقد ، وأما إذا كانت المرجعية للسلطان فإنه يأثم هو والأمة بريئة من الإثم رغم معرفتها بانتشار الظلم والفساد فيها .
ومن الواضح والثابت أن إشراف السلطان على القضاء على وفق ما خوله أهل الحل والعقد لا يعارض مرجعية الأمة ، لان هذا الإشراف بحكم الوكالة لا بحكم الأصالة ، فليس له أن يتصرف في القضاء لمصلحة نفسه أو أهله دون مصلحة المسلمين الذين عاهدهم على أن يحكم بالكتاب والسنة
وخلاصة ما تقدم: أن مرجعية القاضي في الحقيقية هي للأمة، بما أخذته على السلطان من بيعة على الكتاب والسنة والقاضي على هذا هو وكيل الأمة يرفع عنها ما أمر الله به من الحكم بالشريعة والكفر بالطاغوت امتثالا لأمر الله تعالى .
وكتبه: د. سليمان الخميس