علانية المحاكمة والرقابة المجتمعية على القضاء
يقصد بمبدأ علانية المحاكمة تمكين جمهور الناس بغير تمييز من الإطلاع على إجراءات المحاكمة والعلم بها , ولعل من أبرز مظاهر ذلك تمكين من يرغب الدخول إلى قاعات المحاكمة وسماع الدفوع والمناقشات وهذا المبدأ من المبادئ المتأصلة للعدالة بل يمكن القول أنه كلما ضيق هذا المبدأ كلما ضيق على العدالة في المجتمع .
وليست علانية المحاكمة مبدأ غريباً على المجتمع الإسلامي كما يظنه البعض , حيث القضاء الإسلامي لم يعرف المحاكمات السرية مطلقاً حيث كان مجلس القضاء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعد في المسجد واستمر الحفاظ على العلانية طيلة عهود القضاء الإسلامي وقد ذكر قضاة الإسلام ذلك , قال في المغني 10/101 ( فصل قال أصحابنا يستحب أن يحضر مجلسه أهل العلم من كل مذهب حتى إذا حدثت حادثة يفتقر إلى أن يسألهم عنها سألهم ليذكروا أدلتهم فيها وجوابهم عنها فإنه أسرع لاجتهاده وأقرب لصوابه ) ومن هذا النص نفهم أن حضور الجلسات ليس حضوراً صورياً بل هو مشاركة في الواجب بعد طلب القاضي وإذنه , وقال في فتح القدير 7/267 ( ويجلس للحكم جلوساً ظاهراً في المسجد … ولو جلس في داره فلا بأس به , ويأذن للناس بالدخول بها , ويجلس معه من كان قبل ذلك ؛ لأن في جلوسه وحده تهمة ) وعلى هذا فإن قضاء القاضي سراً هو قضاء في محل التهمة كما قال الفقهاء , فالواجب الإعلان بالقضاء لأن ذلك ادعى للعدل وأحرى لقبول حكم القاضي , ومن مصالح ذلك أن بعض الخصوم يندفع عنه كثير من الكذب في الحجة إذا رأى الناس ؛ حياءً وخوفاً من كلامهم فيه فيندفع شر كبير عن الناس بعلانية القضاء .
وقد نص نظام المرافعات الشرعية على علانية الجلسات في المادة الحادية والستون والتي جاء فيها: ( تكون المرافعة علنية إلا إذا رأى القاضي من تلقاء نفسه أو بناءً على طلب أحد الخصوم إجراءها سراً محافظة على النظام العام أو مراعاة للآداب العامة أو لحرمة الأسرة ) وإن من الأمور التي تتأكد فيها علانية الجلسات ما يتعلق بالشأن العام سواء كان سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً , حيث إن المجتمع في مثل هذه القضايا طرف في الدعوى , ذلك أن الأحكام التي تصدر يمكن أن تشتمل على تقييد للحرية أو تجريم لفعل أو قول وقد تشكل هذه الأحكام سوابق قضائية يتأثر بها المجتمع بأسره .
ومهما كان فإن علانية الجلسات هي نوع من الرقابة على القضاء , لكنها رقابة لا تملك التدخل في شؤون القضاء , وإنما هي حافز لكي يتحرى القاضي والمدعى والمحامي وجه العدالة بما يعود على المجتمع بالنفع والفائدة , وهي بهذا تماثل من بعض الوجوه نشر الأحكام القضائية إلا إن النشر رقابة تالية للقضاء في حين أن العلانية رقابة مقارنة للقضاء .
ولو لم يكن في هذا المبدأ إلا حصول الطمأنينة لدى المتداعيين إلى سلامة الإجراءات القضائية , وإبعاد القضاء والقضاة عن الشبهات وعن ما يدعيه غالباً المحكوم عليه من الظلم وعدم إعطاءه الحق في سماع الدفوع التي لديه لكفى فيها مصلحة موجبة لهذا المبدأ العظيم .
ومما يحسن التأكيد عليه أن علانية الجلسات لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تؤثر سلباً على حفظ النظام العام في الجلسة , أو على حيادية القضاء , فالقاضي الذي يمثل الشريعة أو حتى القانون لا يجوز أن يكون يوماً محابياً للمجتمع أو للدولة في تحقيق مراد أي منهما , وإنما هو ناطق عن شريعة الله وما أؤتمن عليه من قانون عادل لا يخالف الشرع المطهر بعيداً عن الأهواء والرغبات من أي طرف كان .
الكاتب: المحامي الشيخ: د. سليمان بن صالح الخميس