مخاطر النزاعات القضائية في الشركات المساهمة
الوقاية قبل العلاج
تهتم الشركات الكبرى بإدارة المخاطر؛ وقد جعلت بعض التشريعات إنشاء لجنة المخاطر التابعة لمجلس الإدارة في الشركات المساهمة لجنة وجوبيّة، ومن المخاطر التي تواجه جميع الشركات مخاطر النزاعات القضائية؛ ذلك أن كثرة النزاعات القضائية تؤثر على سمعة الشركة بشكل مباشر، وذلك بلا شك يؤثر على التصنيف الائتماني للشركة، حيث تزيد التكلفة التشغيلية للشركة من جهة تكاليف التقاضي والتي تشمل رسوماً حكومية – لا تخلوا منها أنظمة أغلب الدول – وأجور المحامين والتعويضات الناشئة عن التقاضي وتكاليف التحكيم وفي بعض الحالات أجور الخبراء، مما يؤثر على الشركة بتحميلها التزامات لم تكن محسوبة ضمن الميزانية التقديرية للشركة، علماً بأن هذه النزاعات – إذا تفاقمت – قد تقود الشركات إلى مرحلة الإفلاس .
ومن هنا اتجهت الشركات ابتداءً إلى البحث عن سبل الوقاية من النزاعات القضائية من خلال الاستثمار البشري في الإدارات القانونية داخل الشركة، والتعاقد مع المحامين الخارجيين، إلا أنه مع كل ذلك فما زالت النزاعات القضائية قائمة وهي غالباً أحد أعراض المرض في الشركة، فارتفاع عدد ونوعية القضايا التي تدخلها كل شركة بما لا يتناسب مع نوعية نشاط الشركة يكون دليلاً على وجود مشاكل إدارية في الشركة، ولا شك أن فحص النزاعات القضائية في كل شركة ينتج عنه تحديد مَكمن الخلل في الإدارات المختلفة في الشركة.
تتنوع النزاعات القضائية في الشركة إلى عدة أنواع: منها النزاعات التشغيلية التي تتعلق بتشغيل الشركة بحسب نشاطها؛ كالنزاع مع الموردين أو العملاء أو مقاولي الباطن، وقلة هذه النزاعات تدل على جودة ممارسة الشركة لنشاطها، وزيادة هذه النزاعات دليل على تدني مستوى جودة ممارستها لنشاطها، كما أن هذه النزاعات تقيس مستوى أداء إدارة المبيعات وإدارة الإنتاج في كل شركة، ومن النزاعات القضائية في الشركة النزاعات المتعلقة بعلاقة الشركة مع جهات التمويل والتي تعرف بالمنازعات التمويلية وهي من أخطر النزاعات؛ لأنها غالباً نزاعات كبيرة ومرتبطة برهون وتقيّد حرية الشركة وتؤثر بشكل مباشر على تصنيفها الائتماني، ومن خلال هذه النزاعات يقاس مستوى الإدارات العليا في الشركات وخاصةً الإدارة المالية.
ومن أنواع النزاعات التي تتعرض لها الشركات النزاعات المتعلقة بالقانون العام، وتتمثل في مخالفات الشركة لقوانين الشركات أو قانون العمل أو القوانين العامة المتعلقة بالمنتجات التي تنتجها الشركة مثل قوانين البيئة أو لوائح المواصفات والمقاييس وغيرها من القوانين المرتبطة بنشاط الشركة، ومن هذه النزاعات ما يتعلق بقوانين غسل الأموال والفساد الإداري والتي تجر الشركة إلى التزامات مادية وشخصية على إدارتها وتؤثر على سمعة الشركة بشكل مباشر، ووجود هذه النزاعات إشارةً واضحة إلى ضعف الإدارة القانونية للشركة، وبه يُقاس مستوى الإدارات التنفيذية في الشركة بشكل مباشر.
ويمكننا من خلال هذا المقال المقتضب أن نطرح لعملائنا خمس توصيات مهمة للوقاية من النزاعات القضائية، ونؤكد لهم أن تكاليف العمل بهذه التوصيات هي أقل من تكاليف معالجة النزاعات بعد وقوعها، ونلخص هذه التوصيات فيما يلي:
أولاً/ العناية بعقود تأسيس الشركة، وضبط ما يتعلق بحقوق الشركاء والإدارة في الشركة بشكل يجمع بين العدالة والضبط والمرونة، وهي أركان ثلاثة يجب أن يكون لدى من يؤسس الشركة إدراك كامل لأهمية تحقيقها، فغياب العدالة يثقل الشركة بالنزاعات بين الشركاء، وغياب الضبط يوقع الشركة في المخالفات القانونية من قبل الإدارة التنفيذية في الشركة، وغياب المرونة يؤدي إلى الفشل الإداري وضياع الفرص التجارية على الشركة.
ثانياً/ العناية بالإدارة القانونية الداخلية في الشركة، وتزويدها بالكوادر المناسبة بحسب حجم ونشاط الشركة، والتأكد من وجود نظام إداري يُمكن الإدارة القانونية من المشاركة في تقييم مخاطر الالتزامات قبل دخول الشركة فيها، فالإدارة القانونية واجبها الأهم هو الحيلولة دون الوقوع في النزاعات وليس فقط معالجة النزاعات بعد حصولها، فمراجعة العقود ونمذجتها ومتابعة الالتزام بها من أهم الاختصاصات للإدارة القانونية الداخلية، كما أن التحقق من التزام الشركة بالقوانين العامة سواءً المتعلقة بالشركات أو العمل والعمال أو بنشاط الشركة العام هو من مسؤولية الإدارة القانونية في كل شركة، ولا يمكن أن يسند ذلك إلى موظفين ليسوا من أهل التخصص وليسوا من أهل الخبرة والتجربة اللازمة، حيث إن هذا تفريط قد يؤثر سلباً على أعمال الشركة.
ثالثاً/ التعاقد مع محامي خارجي مستقل شكلاً ومضموناً، والعناية بهذا الاستقلال عند اختياره، ذلك أن كثيراً من الإدارات في الشركات تُهمل في هذا الجانب ولربما اختارت المحامي الخارجي الذي تظن أنه يتفق معها في الرؤى والأهداف، وتجنبت المحامي الواضح الذي يسعى لوضع النقط على الحروف أمام إدارة الشركة، وتفعل بعض الشركات هذا ظناً منها أن التوافق بين المحامي الخارجي وبين إدارة الشركة هو من مصلحة الشركة، ولكنها تغفُل عن أن القانون لن يجامل الشركة ولو جاملها محاميها، وأن مصلحة الشركة أن تعرف أين تقف حقيقةً وبدون مجاملة في كل قضية قبل الدخول فيها، وأن المحامي ومثله المراجع المحاسبي الخارجيين مهمتهما أن يوضحا لإدارة الشركة الخطورة قبل وقوعها، والإرشاد إلى الحلول الصحيحة ولو كانت مؤلمة أو لا تتفق مع إرادة الشركة أو بعض من في مجلس إدارتها واللجان المنبثقة منه.
إن الفرق بين الإدارة القانونية الداخلية وبين المحامي الخارجي يكمن في استقلال المحامي وعدم خضوعه للإدارة التنفيذية بشكل مباشر وبالتالي حياديته عند تقديمه لرأيه، وهذا لا يعارض حرصه وتفانيه في تحقيق أهداف الشركة، لكن ينظر من خارج المنظومة ويُقيم الموقف بلا ضغوط إدارية من الإدارة العليا للشركة ولا من الإدارات الأخرى فيها التي ربما تؤثر في تشكيل رؤية الإدارة القانونية الداخلية، كما أن غالب المحامين الخارجيين أكثر خبرة في تقييم مآلات النزاعات لأنهم أكثر ممارسة لها من المحامين الداخليين في الشركة.
رابعاً/ التقييم الدوري للنزاعات القضائية، ويجب أن يتم ذلك على مستويين:
المستوى الأول: المستوى الخاص بكل نزاع وما نسبة نجاح القضية وهل سيترتب على الخسارة التزام مادي على الشركة، وما أثره بشكل منفرد على وضع الشركة العام.
المستوى الثاني: المستوى العام بحيث تُقيم النزاعات عموماً بشكل حسابي وتقارن بأصول وموجودات الشركة وكذلك بإجمالي حجم الاستثمار في الشركة، وكم تمثل نسبة الديون المشكوك فيها والديون المعدومة، وما هي نسبة حصول التزامات جديدة على الشركة من هذه النزاعات، وأي أقسام الشركة يتسبب بشكل ملحوظ في هذه النزاعات، وكيف يمكن معالجة ذلك الخلل.
إن لمثل هذا التقييم إذا تم بصورة منصفة وحيادية أثر على تحسين جودة الإدارة في الشركة، فالشركة التي تعج بالقضايا العمالية غالباً ما يكون الخلل فيها في إدارة الموارد البشرية أو في الإدارة القانونية، وفحص طبيعة النزاعات سيكشف تفاصيل ذلك، والشركة التي تعاني من مشاكل مع الموردين فإن الخلل سيكون في إدارة المشتريات أو في الإدارة التنفيذية، والشركة التي تكثر فيها الدعاوى المتعلقة بنشاط الشركة فإن في إدارتها الفنية خللاً أضعف المنتج وجعل العملاء يقيمون تلك الدعاوى … .
خامساً/ الحرص على التسويات العادلة وقبولها قبل الدخول في النزاع، حيث إن التماس العدل والحق ثم قبوله بشكل ودي خير من المخاطرة في النزاعات القضائية؛ ذلك أن كثيراً من النزاعات إذا بدأت ربما تجر معها نزاعات متشابهة بسبب خوف المتعاملين مع الشركة، وتشويه سمعة الشركة، ويجب الحذر في هذه الحالة من التمادي في قبول التسويات بشكل تظهر معه الشركة بالطرف الضعيف، أو بالطرف الخاضع للابتزاز، والملاحظ أن كثيراً من الإدارات التنفيذية في الشركات أمام موضوع التسويات على طرفي نقيض، فمنهم من يرفض ذلك بحجة خوفه من أن يوصف بالضعف أو أنه جامل الخصوم أو بالفساد وتلقي مقابلاً لقبوله بالتسوية، ويقول بصراحة (ليُحكم علي بضعف هذا المبلغ لكن تكون قضاءً ولا أتحمل مسؤولية قبول التسوية) وهذا طرف، وعلى النقيض منه من يقبل التسويات ولو كانت تُرتب الضرر على الشركة وربما حصل ذلك بحسن نية وأن الحق واضح، لكن الأمور ليست بهذه الصورة فالشركة شخصية اعتبارية إذا كثرت ديونها فإنه لا يسوغ تعريضها لتسويات تتلفها وتسقط حقوق الدائنين الآخرين وتوقف نشاطها وتعجزها عن الوفاء بباقي التزاماتها، والتسويات يجب عند دراستها أن يؤخذ بعين الاعتبار المطالبات المشابهة للموضوع المعروض فيه التسوية، وكذلك جميع المطالبات على الشركة حيث إن لجميع الدائنين نصيب كما أن لهذا الدائن نصيب، وأن الهدف من التسوية إنقاذ الشركة وليس اتلافها، وأنه يمكن أن يعطى الدائن بعض حقه على أن يسقط الباقي أو يؤجله لكن دون تدمير الشركة، وذلك لكي تتمكن من اكمال طريقها وسداد باقي التزاماتها.
ختاماً نؤكد أن على إدارات الشركات الحرص على بذل الجهد في تجنب النزاعات القضائية ابتداءً قبل حصولها، والأخذ بالقاعدة الصحية: (الوقاية خير من العلاج)؛ فهي وإن كانت قاعدة طبية تتعلق بالأبدان فالشركات شبيهة بالإنسان تشب وتهرم، تصح وتمرض، تنشط وتفتر، وعلى القيادي الناجح أن يحافظ على شركته كما يحافظ على بدنه.