مفهوم الوطن من خلال النظام الأساسي للحكم
بسم الله الرحمن الرحيم
لا تزال إشكالية مفهوم الوطن غير واضحة لدى كثير ممن يتعاطون مع هذا المصطلح ، وذلك يعود بالدرجة الأولى إلى المزايدات الكثيرة حول هذا المفهوم ، واستعماله في الخصومات والتصنيفات، ناهيك عن استعمال هذا المصطلح في التزلف المذموم عقلا وشرعا بإلباس مفهوم الوطنية غير لباسها وتوسيع المفهوم بحسب ما يراه المتزلف قربة لمن يتزلف إليه .
وإشكالية مفهوم الوطن في العقل والشرع تقوم على أساس الاختلاف في تحديده فهل يحدد الوطن بالتراب أو البقعة الجغرافية سواء التي ولد عليها الإنسان أو التي ترعرع ونشأ فيها أو التي رزق منها وعاش فيها ، فهل التراب الذي تربطك به أحد أو كل هذه العلاقات الثلاث هو الوطن ، ويكون التراب هو المرجع لتحديد مفهوم الوطن .
وهناك من يربط مفهوم الوطن بالناس الذين ينتمي إليهم الإنسان سواء كانوا قبيلة أو عرقاً أو مجتمعا مدنيا أو ربما سكان قارة بحيث يشكل هؤلاء الناس الذي يطلق عليهم عادة : الشعب المرجع لتحديد مفهوم الوطن .
وير آخرون أن مفهوم الوطن يحدده الثقافة والقيم التي تسود في مجتمع معين ، فالدين – أي دين كان- يمكن أن يكون مرجعية لمفهوم الوطن ، والعلمانية مرجع آخر بل ربما اعتبر الالحاد مرجعا لتحديد مفهوم الوطن وقد قيل :
وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من صلب أوطاني
وقال الآخر جاعلا قيمة البعث العربي أساسا لمفهوم الوطن :
آمنت بالبعث ربا لا شريك له وبالعروبة دينا ما له ثاني ( نسأل الله السلامة ) .
والحقيقة أن الوطن ليس بانفراد واحدة من هذه الثلاث فالتراب والبقعة وحدهما لا يشكلان الوطن الذي ينتمي إليه الإنسان وإن كانت البقعة الجغرافية من أهم أركان الوطن ؛ ذلك أن غالب البشر شكلوا الأوطان في المهاجر التي هاجروا إليها، وإنما يتحدث الناس عن الانتماء النسبي للبقعة ، أي سنوات ولو كانت بعمر أجيال فهي قصيرة إذا قستها بعمر الدنيا ، كما أن حدود الجغرافيا للدولة متغيرة وليست ثابتة كما يشهد على ذلك التاريخ، ومازالت الدول حتى عصرنا الحالي تندمج وتستقل ، وتتحد وتنقسم ، ولو كانت البقعة هي الوطن لكان لها من الثبات مثل ما لقيمة الوطن المعنوية من ثبات .
والإنسان بقبيلته أو عرقه أو مجتمعه ليس هو الوطن وإن كان أيضا من أهم مكوناته ؛ فالصراع بين أبناء القبيلة الواحدة والعرق الواحد على الأوطان وباسم الوطنية أظهر من أن يخفى، ولو كان العرق هو الوطن لما شهدنا هذه الصراعات المبنية على اختلاف في الانتماءات بين البشر.
وكذلك القيم رغم أهميتها فهي ليست وحدها الوطن ، ولربما اشترك البشر في القيم واختلفوا في المصالح فتنازعوا وتشكلت لهم انتماءات مستقلة ، وها هو العالم العربي رغم اتفاقه على قيم الدين واللغة والثقافة والتاريخ إلا أن لكل دولة انتماءات مستقلة ، وولاءات تخصه تتناسب مع مكونه الوطني الخاص .
إن الحقيقة هي أن كل واحدة من هذه القضايا الكلية الثلاث ( البقعة والناس والقيم ) لا تمثل الوطن وحدها ، ولكن الوطن يتمثل فيها مجتمعه ، فالوطن : بقعة جغرافية يعيش عليها شعب واحد بهوية ثقافية واحدة ، وسنلقي الضوء فيما يلي على مفردات معالم هذا المفهوم في المملكة العربية السعودية من خلال النظام الأساسي للحكم في المملكة .
فيما يتعلق بالبقعة فهي مرتبطة بالدولة المعروفة عربياً واسلامياً ودولياً والمرتبطة بالعاصمة الرياض والمستقلة بسيادتها على أرضها، وبهذا تتضح الحدود الجغرافية العامة للدولة وللوطن ، وقد وضح ذلك نظام الجنسية السعودية فنص على استحقاق الجنسية لمن هم على أراضي المملكة العربية السعودية التي تشمل الأراضي والمياه والطبقات الجوية الخاضعة للسيادة العربية السعودية كما تشمل السفن والطائرات التي تحمل العلم العربي السعودي.
ويلاحظ في الباب الأول ( المبادئ العامة ) من النظام الأساسي للحكم التركيز على هوية الدولة ودينها ودستورها ولغتها ، وهو بهذا يحدد ما يتعلق بالشعب ( المكون الثاني لمفهوم الوطن) الذي يعيش على هذه الأرض العربية المرتبطة بعاصمتها الرياض .
إن المملكة وإن كانت قامت على الأرض التي خرج منها العرب إلا أنها لم تبن هويتها على الجنس أو العرق ، فلم تشترط شروطاً في الدم الذي يسري في عروق مواطنيها ولم تجعل ميزة لمواطن على آخر تتعلق بهذا الشأن ، وإنما ربطت مفهوم الوطنية بعد تحديد البقعة بالهوية والثقافة ولعل ذلك كان أبرز المكونات الوطنية وفقا للنظام حتى إنه ارتبط بالإنسان الذي هو المكون الثالث لمفهوم الوطن ، فصار من شروط منح الجنسية إجادة اللغة العربية تحدثا وقراءة وكتابة وذلك للحفاظ على الهوية الثقافية للوطن .
وبالعودة على النظام الأساسي للحكم نجد ربط الوطن بالهوية الثقافية للدولة وذلك من خلال نصوص المادتين الأولى والثانية فكما حددت المادة الأولى دين الدولة وهو الإسلام، ودستورها وهو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولغتها وهي اللغة العربية، فقد حددت المادة الثانية عيدا الدولة، وهما عيدا الفطر والأضحى، وتقويمها، وهو التقويم الهجري.
وجاءت المادة السادسة لتضبط العلاقة بين الراعي والرعية على أساس الهوية فنصت على أن يبايع المواطنون الملك على كتاب الله تعالى، وسنة رسوله، وعلى السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره.
وفي المادة السابعة جاء النص على مصدر السلطة في المملكة العربية السعودية وأنها مستمدة من كتاب الله تعالى، و سنة رسوله. وهما الحاكمان على جميع أنظمة الدولة.
وأوضحت المادة التاسعة أن الأسرة ، هي نواة المجتمع السعودي، ويربى أفرادها على أساس العقيدة الإسلامية، وما تقتضيه من الولاء والطاعة لله، ولرسوله، ولأولي الأمر، واحترام النظام وتنفيذه، وحب الوطن، والاعتزاز به وبتاريخه المجيد.
وفي المادتين الحادية عشر والثانية عشر جاء النص على أساس ترابط أفراد المجتمع اعتصام أفراده بحبل الله، وتعاونهم على البر والتقوى، والتكافل فيما بينهم، وعدم تفرقهم ، وأن تعزيز الوحدة الوطنية واجب، وأنه يمنع كل ما يؤدي للفرقة والفتنة والانقسام.
ولغرض إنشاء الموطن الصالح جاءت المادة الثالثة عشر موضحة هدف التعليم وأنه يهدف التعليم إلى غرس العقيدة الإسلامية في نفوس النشء، وإكسابهم المعارف والمهارات، وتهيئتهم ليكونوا أعضاء نافعين في بناء مجتمعهم، محبين لوطنهم، معتزين بتاريخه.
وبهذا يتضح المكون الثالث من مكونات الوطن وهو القيم ، والمواطن السعودي هو الإنسان الذي يعيش على هذه الأرض السعودية حاملا ومدافعا عن هذه القيم التي تمثل هوية المواطن والوطن .
إن الذين يحاولون هدم الهوية والقيم أو تبديلها يهدمون في الحقيقة المواطنة في الإنسان ، وإنهم يجهلون حينما يظنون أن ما بناه أجدادنا وآباؤنا خلال قرن من الزمان في تعزيز الهوية وتثبيتها سيزول أو ينقلب دون أن يكون لذلك آثارا كارثية على الوطن بباقي مكوناته، وهذا غير صحيح؛ فاللعب بأحد مكونات مفهوم الوطن سيؤثر حتما على المكونين الآخرين وهما البقعة الجغرافية والإنسان نفسه ، فهل نعي ذلك .