ألف العلامة بكر أبو زيد كتابا أسماه لا جديد في أحكام الصلاة ، ذكر فيه ثماني مسائل مما اشتهر عند بعض المنتسبين إلى الحرص على تطبيق السنة من غلط فيها يرجع إلى الغلط في فهم وتطبيق السنة ، حتى أخذوا بقول شاذ أو بعموم نص له ما يقيده، وقال في مقدمة كتابه قولا ينبغي أن يكون شعارا للفقيه والمتفقه حيث قال ” وكنا نرى من ينتصر لقول شاذ ، فيظهره ويستدل له ويدعو إليه، أو يأخذ برخصة فيها غثاثة فيشهرها ويبذل جهودا في سبيل تعميمها وإبلاغها، وقد كفانا العلماء مؤونة الرد بالتقعيد الناهي عن شاذ العلم وغثاثة الرخص” .
وقد كان الحامل لما ذكره الشيخ في وقته من غلو في تلك المسائل هو:
حب تطبيق السنة والاجتهاد في ذلك قدر الإمكان؛ فأدى إلى نوع من التكلف قريب من التنطع مؤداه استدراك على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بتفويتها السنة النبوية وهجرها قرونا حتى ظهر القول بها في عصرنا، قال العلامة بكر أبو زيد ” وفي هذا تأثيم لأمة محمد ” صلى الله عليه وسلم .
ورحم الله الشيخ بتوفيه حيث لم يدرك ما ذاع في عصرنا من فتاوى بالأقوال الشاذة وتتبع للرخص الحامل عليها ليس التدين والحرص على السنة وإنما البحث عن التيسير على المكلفين ، أو الموائمة بين التكليف وبين بعض ما لدى أعداء الدين من سلوك أو اعتقاد ، أو الحياء من أن يزدري أعداء الملة التدين بكتم بعضه؛ وكأن في الدين منقصة ومسبة ، ولقد صار من أدلة بعض المتفقهة هذا الزمان دليلا يوردونه في كل مسألة وهو أن الغرب وصل إلى القمر وأنتم تناقشون حل كذا أو حرمة كذا ، وما أدري ما علاقة الدليل بالمدلول ، إلا أن هذا يوضح المنطلق الذي ينطلق منه هذا الفقيه ، والله المستعان .
ومن تأمل حال المفتين هذا الزمان علم صدق قولي حيث يحس من أدرك الزمان السابق أن دين الله قد تبدل ، وأن الفقه قد تغير فصار للناس أقوال عجيبة في الفقه والعقيدة ، فقائل إن طاعة ولي الأمر يدخل فيها كل من تولى أمر المسلمين ولو كان من الكفار الأصليين ، وقائل إن بجواز التشبه بالكفار في أعياد الميلاد ، وجواز تهنئتهم في أعيادهم وأن ذلك من حسن الخلق ، وقائل لا كفر إلا باعتقاد ولو كان لشاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لمهين المصحف ،هذا بعض ما يتعلق بالعقيدة .
وفي أبواب الفقه يكفي أن تسمع فتاوى الحج التي تصدر باسم التيسير حتى يخيل لك أن الدين قد أحدث فيه فقائل بجواز الرمي يوم الحادي عشر بعد الفجر أو بعد الثانية عشر ليلا، وقائل بالتضحية بالدجاج مكان بهيمة الأنعام، وأن لبس الوزرة المخيطة على أسفل الجسم سائغ في الإحرام .
وإن فات الكثير فلا تفوت الإشارة إلى القول بثبوت المحرمية برضاع الكبير ، ونشر ذلك حيلة على تحريم الاختلاط في العمل .
وأما في المعاملات المعاصرة فقد توسع القوم حتى شاع عند الناس أن فقهاء البنوك مهمتهم إيجاد التحويلة الشرعية التي تمكن من ممارسة المعاملة الربوية بطريقة سائغة في الفتوى ، حتى قال بعضهم إن المالك له أن يؤجر العين مرة أخرى بدون أجرتها الأولى احتيالا على بيع الدين ، وأجاز آخرون الربا الصريح إذا كان على سبيل الاستثمار وكانت النسبة المأخوذة قليلة تيسيراً على الناس، وكذلك قال بعضهم بجواز البيع قبل القبض مطلقا في جميع السلع وغيرها كثير .
ولا أريد الاستطراد في ذكر الأمثلة للفقه الشاذ إلا أني أنبه على أمرين في غاية الأهمية :
الأول : أن صدور الرأي الشاذ من الفقيه في آحاد المسائل أمر لا يستنكر، حيث إن لكل فقيه زلة كما أن لكل جواد كبوة، وهو لا يقدح في ديانة الفقيه ولا في علميته، وذلك لأن العالم الرباني حين يرجح قولا شاذا فإنه يأخذ به عملا بما يراه من الدليل، وإنما المستنكر أن يكون المنهج الفقهي هو تتبع الزلات وإبرازها على أنها أقوال معتبرة رغم إطباق الأمة على إهمال هذه الزلات وعدم الالتفات إليها .
الثاني : أنه لا تلازم بين الشذوذ والخطأ وإنما العلاقة بينهما أغلبية، فالغالب أن القول الشاذ عند الفقهاء المجتهدين يكون خطأ، وقد يوجد في الأقوال الشاذة ما يقوى دليله حتى تميل إليه أنفس كثير من المجتهدين إلا أنهم عند القول به يحتاطون ويتحرزون من الزلل، ومن أمثلة ذلك القول بطهارة الدم المسفوح من الآدمي، وهو قول مكحول الشامي ويدل عليه فعل الصحابة، وكذلك القول بعدم وقوع طلاق الحائض فقد نسب إلى الشذوذ رغم انتشاره بعد شيخ الإسلام .
ومن المؤكد أن استنكارنا لتتبع الفقه الشاذ في هذا الزمان سببه أن الحامل عليه غالبا ليس إتباع الدليل وإنما هو البحث عن الرخص، وطلب التيسير المزعوم، مع أن التيسير هو في شريعة الله التي أمر بها عباده ، فكل تشريع فهو تيسير، وإن بدا للناس فيه المشقة، لكون المصالح والمنافع المترتبة على العمل به والتزامه أكبر من المصالح المتوهمة في تركه وتبديله، ولقد مضى بالقوم الترخص وطلب التسهيل حتى جعلوا وجود القول الشاذ عند السلف كاف لجواز الأخذ به، فإذا سأل أحدهم عن الرمي قبل الزوال مثلا أجاب : قال به عطاء ، وقول عطاء ليس بحجة بالإجماع، بل قول الصحابي إنما يكون حجة عند من قال به في مواضع مخصوصة ومن أهم شروطه عدم وجود المخالف .
وختاما فإننا نقول لأنفسنا وللمسلمين إنه لا جديد في أحكام الفقه إلا بما يجد من المسائل أما ما سبق من النوازل واستقر من الفقه فإن التجديد فيه يكون بالعودة فيه إلى المصدرين المعصومين الكتاب والسنة، لا بمحاولة التوفيق بينه وبين الأطروحات العصرية الواردة من الفكر الغربي في الحديث .
وكتبه: د. سليمان بن صالح الخميس
في يوم الخميس 19/12/1434هـ