يظل التفكير في إصلاح القضاء هو هاجس الجميع ، وإصلاح القضاء لا يعني إطلاقا فساده إنما يعني بشكل أدق تطوير الأداء القضائي ليواكب النهضة الشاملة التي تشهدها الحضارة المعاصرة ، نحن بحاجة ماسة لهذا التطوير والمواكبة لكي يكون القضاء عنصر بناء في المسيرة التنموية لأي مجتمع ، ففي العصور السابقة كان الفصل في القضايا لا يجاوز جلسة أو جلستين ، وكانت الأقضية أشبه بالفتوى ، ومع تطور التعاملات وتنوعها أصبح القاضي يحتاج إلى جلسات وربما سنوات ليستجلي الحقيقة ثم يصدر حكمه الذي يراه ، ومع تعدد الأقضيات كانت الحاجة أمس إلى وضع درجات للتقاضي لتمحيص الأحكام والتأكد من مطابقتها للأدلة الشرعية والقانونية .
ومع هذا التنوع والتعقيد ، ومع اختلاف درجات التقاضي فإن التخريجات القضائية تتنوع وتكثر حتى يكون لكل حكم تخريجات متعددة ويستوي بذلك القضاء الشرعي والقضاء القانوني ، حيث إن الحكم في القضية يترتب على تكييفها ، والتكيف يترتب إلحاق العقد بأصل شرعي أو قانوني ، وهذا الإلحاق ظني تختلف فيه وجهات النظر ، فعلى سبيل المثال : هناك من يخرج عقد المحاماة على الجعالة وهناك من يلحقه بالإجارة وهناك من يجعله عقداً مستقلاً ، وكذلك الحال في الشروط في العقد : من القضاة من يجعلها فاسدة ومنهم من يجعلها مفسدة ومنهم من يصححها ويلزم بها ، ولأجل كل هذه الاختلافات تختلف الأحكام ، ومن ظن أنه يمكن ضبط هذا الأمر فهو مخطئ، لكن الممكن هو ترشيد الاجتهاد القضائي بشكل أفضل ؛ من خلال إقرار درجات التقاضي التي ترد القضاء بالشاذ من التخريجات ، ولا يختلف في هذا القضاء القانوني عن القضاء الشرعي .
وأقصى ما يريده المجتمع مهما كانت ديانته من القضاة أن تكون اجتهاداتهم – التي يلزمون بها الناس – قضاء غير مدفوعة الثمن ، وأن لا يكون القضاء سلعة تباع وتشترى بالمال أو بالمنصب أو بالجاه ، والمجتمع الذي يضبط هذه المسألة يحقق العدالة ، وليس العدل ، بمعنى أنه ساوى بين الناس في الأحكام والظروف غالباً فحاكمهم إلى قانون واحد ولم يترك للقوي أو الغني أن يحصل على فرصة أكبر للظفر بمطلوبه ، وهو بعد ذلك ربما يحقق العدل بموافقة حكم الله وربما يتخلف عن موافقة حكم الله فتحقق العدالة وإن لم يتحقق العدل.
إن الوصول إلى هذا الهدف النبيل وتنزيه القضاء من التسليع ( تحويله إلى سلعة ) لن يتحقق للمجتمع إلا بضبط الذمة المالية للقضاة وأعوانهم ، بحيث تصدر التشريعات الإجرائية التي تلزم القضاة وأعوان القضاة بالإفصاح السنوي عن ذمتهم المالية ويترتب على ذلك مساءلتهم عما استجد لهم من أموال بشكل دوري ، وتستمر هذه المساءلة إلى الوفاة أو إلى مدة معينة بعد التقاعد ، مع ترتب الآثار عليها عند وجود ما يشبه أنه مكسب غير مشروع .
ولتعلق الكثير بالتجارب الغربية فإني أؤكد أن هذه الطريقة هي المعمول بها في الثقافة الغربية ليس مع القضاة فقط بل ربما مع كل من تسند له مسؤولية مؤثرة في المجتمع ، وليس الذي يحمل الكثير من المسؤولين في تلك المجتمعات على لزوم منهج العدل هو الخوف من الله أو رقابة الضمير والقيم التي زرعت في نفسه وهو طفل ؛ لكن الخوف من الرقابة الحقيقية من خلال نظام إقرار الذمة المالية ، ولكي يحقق نظام إقرار الذمة المالية فإنه يجب أن يشتمل على خمسة عناصر كما يلي :
1–أن يقدم الإقرار دوريا والأولى أن يكون بشكل سنوي .
2–أن يشمل الإقرار الشخص وزوجه وأولاده القصر .
3–أن يستمر الإقرار بشكل دوري بعد ترك العمل لمدة يحددها النظام مع امتداد أجل المساءلة عند وجود موجبها إلى الوفاة .
4–أن يجرم النظام إخفاء الممتلكات من إقرار الذمة المالية .
5–تشكيل لجنة قضائية عليا ملزمة بقبول الشكاوى والبحث فيها والمساءلة والتحقيق إن لزم الأمر.
والذي نرجوه هو أن يبادر المجلس الأعلى للقضاء إلى تبني هذا المبدأ ولعل ذلك يكون شاملاً للقضاة وأعضاء النيابة العامة وكتاب الضبط ، ولو صحب ذلك إقرار بدل مادي للمذكورين 20% من الراتب الأساسي تحت مسمى صعوبة العمل كتحفيز لهم على تحمل تبعات الإفصاح والذي هو نوع من التدخل في الخصوصيات للموظف دعت إليه الضرورة والمصلحة العامة .