الحكمة والسياسة
السياسة ليست كلها نجاسة ، وذلك لأن الجزء الأهم من السياسة هو الحكمة ؛ والتي نعني وضع الشيء في موضعه ، والحكمة خير كثير كما وفت القرآن الكريم ، ولقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الحكمة في تدبير شؤون الأمة ؛والتي يسميها الناس اليوم السياسة الشيء الكثير .
فلتعظيم حرمات الله وللحصول على الاعتراف من العدو (قريش) بالمعسكر الإسلامي قبل صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية ؛ وفي الشروط التي يظهر فيها من التنازل ما لا يخفى ، إلا أن مكسب الاعتراف بحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحقية من شاء من العرب في الدخول فيه كانت مكسباً سياسياً تحقق للدعوة الإسلامية تترتب عليه مصالح عديدة لا تخفى .
وكما أن السياسة النبوية كانت في التعاملات الدولية فهي كذلك في التعاملات مع الرعية ، ففي الحديث ( عن عائشة رضي الله عنها قالت : أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ائذنوا له ، فبئس ابن العشيرة ، أو بئس أخو العشيرة ، فلما دخل ألان له الكلام ، فقلت له : يارسول الله ، قلت ما قلت ثم ألنت له في القول ! فقال : أي ياعائشة ، إن شر الناس منزلةً عند الله من تركه ، أو وَدَعَه الناس ، اتقاء فحشه ) رواه البخاري .
ولربما كان من السياسة (الحكمة ) درء تطبيق حد الردة على منافق لم يعلن نفاقه للناس وإن أظهره لدى خاصته لكي لا يكون ذلك ترغيباً عن الدين لأولئك الذين لم يعلموا بالواقعة ، ففي الحديث الصحيح ( أنه لما قال بعض المنافقين : أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه ، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه ) رواه البخاري ومسلم ، وهذا محمول على عدم ظهور كفر المنافق ، أوأنه اعتدر وادعى تأويلا مقبولاً لمقولته ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمه بنفاقه لم يقتله معللا ذلك بالمصلحة الشرعية حتى لا يشتبه حال المنافق على الناظر للمسألة من بعيد فيظن أن المسلمين يقتلون من يدخل في دينهم فيعرض عن الاسلام .
ومثله أيضاً تألفه صلى الله عليه وسلم للكفار بالأموال الكثير ومهاداته لملوك الكفار رغبة في إسلامهم ، لما في إسلامهم من اسلام اتباعهم ، وكذلك عزمه على مصالحة غطفان على ثلث ثمار أهل المدينة حفظاً للصحابة وخوفاً عليهم من القتل في معركة الأحزاب .
إن كل هذه الأمثلة وغيرها كثير هي من الدلائل على أن السياسة التي هي الحكمة أصل في التعاملات بين الدولة الاسلامية والدول غير الإسلامية وكذلك هي أصل في التعامل مع الرعية بمختلف أنواعهم واتجاهاتهم وأفكارهم .
وإذا ازدادت قوة المسلمين فعليهم أن يأخذوا الناس بالعزيمة وأن لا يتوسعوا بالمداراة لأنها في هذه الحالة ليست من الحكمة ولكنها من الهون والضعف ولهذا رد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهم المؤلفة قلوبهم لعزة الإسلام وغناه عن تألف كبار الكفار للدخول فيه .
وعلى الجانب الآخر إذا أصاب المسلمين الضعف لأي أسباب كانت فمن التدين لله تعالى العمل بالسياسة (الحكمة) بمداراة أعداء الدين من المنافقين والكفار حماية للملة وحفظاً للرعية ، ولذلك فرق بعض الفقهاء عند كلامهم عن الاستعانة بالكفار بين حال القوة وحال الضعف .
وفي هذا العصر بلغ الضعف بالمسلمين مبلغاً يحتاجون إدارة شؤونهم السياسية بأبرع إدارة لتحصيل المصالح وتكميلها ودرأ المفاسد وتقليلها ، وعلى المختصين في السياسة أن يضبطوا سياستهم بالقواعد العامة للشريعة ، وعلى علماء الشريعة أن يقدروا المتطلبات السياسية للعصر الحديث ، والتي توجب كثيراً من المداراة الشرعية المتفقة مع أصول الإسلام ، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيراً.
وكتبه د.سليمان بن صالح الخميس
1438/8/28هـ