كانت كل ظهر أربعاء تخرج بابنيها الصغيرين وابنتيها لترقبه ، كنت أصغر الابنين ، كنّا نرقبه حيث كان ينزل في وسط البلدة ثم يسلك الجادة الموصلة للقرية التي تبعد قرابة خمسة كيلوات عن مركز البلدة حيث تنتهي المواصلات هناك ، والمسافة الباقية هي نصيب قدميه من طريق المائة وخمسين كيلا التي بين قريته ومقر عمله.
الحقيقة أنها في كل مرة كانت هي من تفوز برؤيته أولا ، ما السر في ذلك ؟ أهو الصدق في رقبانها له في مقابل اللعب فيما كنّا نفعله ، أم هو حدة البصر فيها ، أم أنها ترى بقلبها لا بعينيها … كل ما يهمني إذ ذاك هو أنه لم يتعود أن يأتي خلو اليدين … غالبا كان يحمل معه الفاكهة التي لم نكن نعرف اسمها إلا بعد أن يوزعها علينا… كان “اليوسفي” فاكهة يخف حملها ويثقل قدرها عند أمه وإخوته الصغار …
لم يكن أبو خالد الذي عرف بذلك لاحقا يعيش لنفسه أبدا ، كان العين الجارية لإخوته كما كانت تدعو له أمه بذلك دائما ، أذكر حينما كان يأخذنا الى متجر الملابس (ابو مطيران) كما يسميه أهل البلدة ، ندخل لنختار يقول للبائع نبي لهم كذا وكذا ويعدد الأصناف من الشماغ الى الجزمة ، لم أنس تلك الجبة التي اشتراها لي في المرحلة المتوسطة ؛ لكم مشيت بها مختالا بين زملائي …
في محل المواد الغذائية كان كأنما يتبضع لمتجر لا لمنزل والده ، من كل نوع وصنف والشراء بالجملة … كانت له عند والدته المنزلة الكبرى بين أبناءها الستة ، وحق لهم أن يسموه يوسف بن يعقوب ؛ والحقيقة أن هذه المنزلة لم تكن منحة من أبويه بقدر ما كانت بسبب فطنة من أبي خالد لأنه كان يعرف حاجة والديه قبل أن يذكراها له .
الفطنة في معرفة ما يحتاجه والداك ثم المسارعة الى تنفيذه أو تنفيذ ماهو أفضل منه دون محاولة لفرض رأي الابن على الوالدين هي ما نحتاجه لنعيش حقيقة البر .
لم يشأ أبو خالد أن يفرق بين بيته وبين بيت أبيه في شيء حتى اختار أرضا بجوار بيته ليشتريها مع اخوته فيبنيها لوالده ، ورغم أنه الأكثر عطاء وبذلا وجهدا وتضحية ألا أنه الأقل كلاما وإطراء لعطائه …
بالنسبة لي لم يكن أبو خالد أخا بل كان والدا ومربيا ؛ أذكر عندما تخرجت في المرحلة الابتدائية أهداني سلسلة كتب ” الناجحون ” كانت قرابة عشرين كتابا صغيرا ؛ فيها قصص لعظماء نجحوا في حياتهم قرأتها جميعها ، وأذكر مجموعة قصصية أخرى اشتراها لي ، كل ذلك لكونه لمح في أخيه الصغير ميلا للقراءة والكتب.
كان ينفق ويعطي ولا يسأل أين ذهب الذي أعطيتك؟ لم أذكر في حياتي أني سمعت منه هذا السؤال رغم أن غالب نفقتي في المرحلة الثانوية وبداية المرحلة الجامعية منه ؛ بل لم يكن يحوجني لأن أقول إنني محتاج ؛ يكفي أن أسلم عليه وأقول “توصي بشيء ؛ أنا مسافر للجامعة” يبتسم ثم يقبلني ويدعو بالتوفيق ويضع يده في جيبه ليخرج الخمسمائة الزرقاء ويضعها بالقوة في جيبي !!! إن الأيمان التي أرددها بأن معي ما يكفيني لن تفيد حيث إن الجواب : زيادة الخير خيرين !!!!
ومع هذا كله ومع أنه له السلطة التامة في تأديبي ومعاقبتي إذا أخطئت – وكنت طفلا خطاء – فلم يكن يكثر من العقوبة حتى إني لو شئت أن أعد ضربه لي لعددته ، ولكنه كان يلجأ الى النصح والوعظ الذي ربما كنّا نتندر منه أحيانا .
كل ذلك وما أخفيه أكثر هو الذي أظهر مني ما ظهر يوم فقد الغالي الحبيب ، وكنت قبل ذلك ممن يعرف بالجلد والصبر والله المستعان…
نعم كانت كل ظهر أربعاء ترقبه لأنه وبلا منازع واسطة العقد في أولادها ؛ بروحه وببذله وصبره وصمته ، توفيت قبل نحو عشرين سنة وإخالها أيضا طوال هذه السنين كانت كل يوم ترقبه ، وليس كل أربعاء فقط ؛ إخالها كانت ترقبه من قبرها وتنتظره ليكون أول أولادها لحوقا بها لتفوز مرة أخرى بالمسابقة بينها وبين أولادها ، وفي هذه الليلة: ليلة الاثنين السابع والعشرين من شهر جماد الأولى لعام سبعة وثلاثين وأربعمائة وألف للهجرة فازت وضمت غاليها ويوسفها ” محمد” بين يديها …
فكم لله من حكمة ، وكم فيما قضاه من رحمة ، وإنا على فراقك يا أبا خالد لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، فإنا لله وإنا اليه راجعون ، اللهم كما واسى والديه بنفسه وماله فأحسن ضيافته بعفوك عن سيئاته ، وبارك في صالح أعماله ، وكن خليفته في أهله وأبنائه وبناته ، وهيئ لهم من أمرهم رشدا إنك حميد مجيد … اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد