يشكل الصراع الفكري جزاء من مكونات الأمة العربية الإسلامية في العصر الحاضر ، الصراع بين المثقف والشعبوي وبين الاسلامي والليبرالي وبين التنويري والسلفي وبين الجهادي والإصلاحي … ؛
وكل هذه الصور من الصراع وان كانت تشكل صورة من صور الخلاف والفرقة إلا أنها تشكل اتفاقا ضمنيا على رفض السائد والاعتراض على الوضع القائم لأن جميع الأطياف السابقة لديهم وحدة في الغاية من حيث الجملة وهي ضرورة التغيير …
فالغاية التي يحصل لأجلها هذا الصراع هي التغيير والتي يعبر عنها المتصارعون بأنها النهوض بالامة من واقعها الذي يتفق الجميع ضمنيا أنه غير مرضي ، حتى أولئك المعارضون للتغيير هم لا يبررون معارضتهم بأن الوضع مرض لهم ، لكنهم يؤكدون أن الواقع خير من مستقبل لا ندري حقيقته .
وأما الدافع لهذا الصراع فهو تنوع القناعات إزاء سبب فشل الأمة فعلى سبيل المثال يعتقد المثقف الليبرالي أن تخلف الأمة سببه أخذها بمفاهيم رجعية ، وعدم انفتاحها على ثقافة الآخر بينما يرى الإسلاميون أنه لا سبيل للأمة للنهوض إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة وفهمهما على وفق فهم السلف الصالح .
وبينما يرى المثقف أن الأزمة تتمثل في تخلف شعبي كبير فإن الكثير من أبناء الشعب يَرَوْن خيانة المثقف لأمته وانشغاله عن رسالته هي السبب الحقيقي للأزمة .
وتكمن حقيقة المشكلة في عدم وضوح الطريق الصحيح لعودة الريادة إلى الأمة ، وهو ارتباط الأمة بالأفكار لا بالأشخاص ، وبالأقوال لا بالقائلين ، فنجد أن حال أمتنا هو أن لدى كل طائفة من الطوائف جزء من الحق إلا أنها تُصر على حصر الحق فيما لديها ورد كل ما لدى الطوائف الأخرى واعتباره باطلاً فقط لصدوره عن الطائفة الأخرى ، وكم شاهدنا من يحارب قولاً كان ينصره بالأمس لأن القائل له ليس من أشياخه ، ومن ينصر قولاً كان يحاربه بالأمس لأن القائل به اليوم من طائفته .
إن من الخلل عدم التفريق بين المنهج والقول والمعتقد وبين السالك للمنهج والقائل بالقول والتابع للمعتقد واعتبار فساد المنهج وخطأ القول وبطلان المعتقد مستلزما لخطأ القائل بكل حال ، والتغافل عن أن الإنسان الذي يعلن في سره وجهره اتباع القول الحق والمنهج الصواب ربما يتلبس ببعض الخطأ في الفهم أو في التطبيق يجعل قوله في بعض المسائل خطأ وتفكيره فاسدا ومنهجه مفسدا لا منجيا ، وكذلك الانسان الذي يعلن في سره وجهره اتباع القول الباطل والمنهج الخاطئ ربما يصيب أحيانا في فهم بعض المسائل أو في تطبيقها ويوفق الى مالم يوفق إليه غيره .
إن من ينادي بلزوم منهج السلف وطريقة أصحاب رسول الله ﷺ لا شك عندنا أنه على القول الحق والنهج الصواب لَكِن ربما ولقصور في العلم أو في بذل الوسع يكون لديه خطأ في الفهم أو في التطبيق ، وكذلك من ينادي بسلوك مناهج الغرب للنهوض بالأمة هو على خطأ عظيم عندنا في القول والمنهج لكنه ربما لحسن القصد وبذل الوسع يصل إلى جانب من جوانب الحق لم يصل إليه غيره من أهل الحق وواجب المصلح الحقيقي هو استيعاب صواب كل أولئك والتخلص من خطأ كل هؤلاء .
لقد كان المسلمون الأوائل يستوعبون في نهضتهم جميع أفراد المجتمع ؛ ولا يضعون شروطا مسبقة لخدمة الأمة ؛ بل المجال مفتوح لكل من بيده شيء أن يقدمه ولم يكن المجاهد يعيب على العالم ولا الصانع على المزارع بل ربما قدم المتلبس بشيء من التقصير في خدمة الدين مالم يقدمه من التزم بالأحكام الظاهره ؛ وكل ذلك لأنهم يجعلون حفظ الدين والأمة مصلحة عليا على الجميع أن يشارك فيها ، ورغم وجود الصراع الفكري في أوآخر عهد الخلفاء الراشدين مروراً بالعهد الأموي والعباسي إلا أننا لم نشهد الاحتراب الداخلي الذي يؤثر على وحدة الأمة أمام أعداءها .
إن على أصحاب رسالة الإصلاح من عموم المسلمين ومن ولاة الأمور بشكل خاص ؛ الراغبين بالنهوض بالأمة من أزمتها إن عليهم أن يحشدوا طاقات جميع أفرادها لهدفهم السامي ، وأن يتلمسوا المصلحين من كل فئة فيأخذوا أحسن ماعندهم ليصنعوا منهجا تتربى عليه الأمة يقوم على مبدأ الشمولية والاعتدال ، فالشمولية وصف ملازم لهذا الدين الذي لم يترك شاذة ولا فاذة إلا وصاغها في منظومة التدين ؛ ليكون الدين كله لله ؛ ويكون لله وحده الخلق والأمر ، وأما الاعتدال فهو في وضع الشيء موضعه بلا غلو ولا تفريط فلا يقدم مفضول على فاضل ، ولا تحصل مصلحة ولا تدفع مفسدة بارتكاب ما هو شر منها .
إن الأمة لكي تنهض في طريق العزة بحاجة الى منهج تفصيلي وبرنامج عملي ؛ يشارك الجميع في رسم تفاصيله ثم في تبنيه والعمل به والدفاع عنه ، فلا يكفينا أن نردد في ندواتنا ومنتدياتنا أننا على منهج الكتاب والسنة دون أن نحدد معالم المنهج بشكل مفصل يمكن للأجيال أن تتربى عليه بشكل عملي ، وعلينا مع هذا كله أن نرسم منهجنا رابطين المدلول بالدليل والتفاصيل بأصولها التي أخذت منها ، فلا نستبدل وإنما نوضح ونبين ، ونفسر ونعين ، في شمولية لجوانب الحياة تمكننا من اللحاق بالأمم بل وسبقها في طريق المعالي .
والنهضة الحقيقية لن تكون الا باستيعاب الجانب العلمي والجانب العملي ؛ فتتربى الأمة على العمل بالقيم ، وليس فقط على تقديس القيم ؛ فقيمة الصدق مثلا تقر بها المجتمعات الإنسانية كقيمة عليا محمودة وربما قدستها ؛ لكن العمل بها قد يكون مفقودا في كثير من المجتمعات ؛ وهكذا قيمة الأمانة والإحسان والبر والتضحية …إننا لكي ننهض بأمتنا نحتاج أن نحول قيمنا من قيم علمية إلى قيم عملية .
إن من معالم النهضة الحقيقية التعامل مع الخلاف كواقع حتمي تعيشه الأمة وتقريب وجهات النظر قدر الإمكان بالنصح والبيان والتحاكم إلى الكتاب والسنة والعذر فيما يسع فيه العذر ، وعدم رد كل ما في الانسان لمجرد الاختلاف بل نتبع أحسن ما يقول الناس وندعوهم الى أحسن ما عندنا وما اختلفنا فيه معهم فحكمه إلى الله القائل ( ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم ) وكم خسرت الأمة إبداع بعض المبدعين بناء على غلو المصنفين والله المستعان ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم