Skip to main content

مفهوم المواطنة بين الدين والسياسة

المواطنة مأخوذة من الوطن وهو المنزل الذي يقيم به الإنسان وجمعه أوطان والموطن في اللغة هو المكان أو المشهد كما قال تعالى ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ) , وتقول العرب : أوطن الأرض وأوطانها واستوطنتها واطنها أي اتخذها وطنا ،  وأما المواطنة فهي مفاعلة ؛ من الفعل واطن وهي تعني المشاركة في اتخاذ الوطن .

ويلحظ أن من مشتقات كلمة الوطن الدارجة في الاستعمال المعاصر مصطلحي : الوطنية ، والمواطنة ، والفرق بينهما أن الوطنية (patriotism) تعني المشاعر التي تخص ارتباط الانسان، بوطنه وما ينشئ عنها من استجابات سلوكية في نفس المواطن ، وأما المواطنة (citizenship) فهي علاقة طبيعية تنشأ بين الفرد وبين الأرض التي يعيش فيها وفقا للنظام العام فيها تؤثر في حقوقه وواجباته تجاه نفسه وتجاه أرضه وتجاه الآخرين ، وقد عرفت دائرة المعارف البريطانية المواطنة بأنها (علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة متضمنة مرتبة من الحرية وما يصاحبها من مسؤوليات وتصبح عليه حقوق سياسية مثل حقوق الانتخاب وتولي المناصب العامة) وأما الموسوعة الدولية فلم تفرق بين الجنسية والمواطنة واعتبرتهما بمعنى واحد فجعلت المواطنة أو الجنسية هي عضوية كاملة في دولة أو بعض وحدات الحكم ، والملاحظ أن هذه المعاجم جعلت المواطنة علاقة أشبه بالتعاقد بين الفرد والدولة ، وهي بهذا قابلة للنقض كسائر التعاقدت ، والذي يظهر لي أن وصف  المواطنة بأنها علاقة طبيعية وليست تعاقدية ؛ تنشأ بين الأرض( الوطن) وفقا للنظام العام عليها وبين الفرد الساكن فيها( المواطن) أولى وأصح , وذلك لأن العلاقة الطبيعية بين المواطن والوطن سابقة على أهلية التعاقد ؛ التي هي مدار العقود ، وكذلك فإن العلاقة الطبيعية أدوم من العلاقة التعاقدية ؛ فهي كعلاقة النسب ، كما أنها لا تقبل السلب  ، وأما ما يترتب على تغير الجنسية أو سحبها من زوال صفة المواطنة فهو أمر كاشف عن زوال الوصف الطبيعي الذي كان موجوداً ؛ فحينما يرتكب المواطن ما يترتب عليه سحب الجنسية أو حينما يقدم على تغير جنسيته ووطنه باختياره فإن هذا الإجراء يكشف عن زوال صفة المواطنة عن هذا الشخص لسبب من الأسباب التي اعتبرها النظام العام على هذه الأرض .

وفي العصر الحاضر شهد العالم تركيزاً على مفهوم المواطنة وعلى الانتماء الوطني ؛ بسبب رغبة الدولة الحديثة في إيجاد قاعدة مشتركة لشعوبها يتفق عليها الجميع ؛ فالعلمانية والحرية التي بنيت عليها الحضارة الغربية أدت إلى انتشار الثقافات والأفكار المختلفة وإعطاء جميع الأفكار والآيدديولوجيات نفس الحقوق ويكفل القانون لكل واحد منها الحرية التامة في الممارسة والتعبير وربما الدعوى والنشر ، مع عدم إلزام الناس بشء منها داخل الدولة ، وهو ما وسع هوة الاختلاف بين فئات الشعب الواحد فوجدت الدولة الحديثة نفسها مضطرة إلى ابتكار ما يوحد بين شعوبها فلجأت إلى مصطلح المواطنة ليكون أساساً لجمع فئات الشعب المختلفة في إطار واحد وكان شعار : الدين لله والوطن للجميع .

وبالرجوع إلى ما سبق ذكره في تحديد مصطلح المواطنة وأنها علاقة طبيعية أو تعاقدية تنشأ بين الفرد والدولة أو الأرض وفق النظام العام فيها فإنه وفقا لهذه العلاقة يتم تحيدد الحقوق والواجبات التي للمواطن أو عليه ، سواء كانت فكرية أو سياسية أو اجتماعية ، وبهذا فإن المفهوم التفصيلي للمواطنة يختلف من وطن لوطن لأن تحديد تفاصيل العلاقة بحقوقها وواجباتها هو في حقيقته تعبير عن القيم العامة والمشتركة التي توحد عليها هذا الوطن.

إن أي وطن من الأوطان إنما يقوم أساساً على وجود قيم مشتركة بين أفراده وفي نطاقه الاقليمي يحترمها أفراد هذا الوطن ويرعاها ويحميها نظامه السياسي وهي قيم مستمرة قابلة للتوارث من جيل إلى جيل ، وهذه القيم المعتبرة في تحديد مفهوم الموطنة هي فقط  القيم التي يزول الوطن بزوالها ن ونقصد بالزوال هنا : أن أبناء الوطن ربطوا بقاء وطنهم ببقاء هذه القيم فحينما تزول هذه القيم أو بعضها فإنهم يتحولون من أبناء الوطن إلى أعداءه ، فعلى سبيل المثال الوحدة الجغرافية للوطن حينما تتعرض للاعتداء يكون شعار المواطن : نعيش معا أو نموت معا ، ولذلك يناظل المواطن لأجل استعادة ما اغتصب من وطنه، وكأنه يقول لا بقاء لوطني بعد أخذ هذه البقعة ، ويجر المساحات الشاسعة من وطنه لحرب من أجل بعض كيلوميترات في شماله أو جنوبه أو غربه أو شرقه .

 وكذلك النظام السياسي حينما يراه المواطنون قيمة عليا من قيم المواطنة يربطون بقاء وطنهم ببقاء نظامه السياسي ، ويجعلون زوال النظام السياسي زوالا للوطن بأكمله ، ولو أصيب هذا النظام فإن السكان يشرعون في النظال لاستعادة هذا النظام أو التعويض عنه بنظام يمثلهم . وكذلك الدين الذي ارتبط به مواطنو هذا الوطن ؛ فأصبح جزءاً من قيم المواطنة الأساسية لدى الشعب والدولة ؛ فهو من القيم العليا التي تتشكل على أساسها المواطنة ، وهذا بغض النظر عن حقيقة الدين وطبيعته ، فحتى العلمانية في أوروبا هي دينها ، وهي جزء من أجزاء المواطنة يرفض النظام الحاكم والشعب المحكوم التنازل عنها لأي سبب من الأسباب ، وفي كثير من بلاد المسلمين يعتبر الدين الإسلامي جزءاً لا يتجزأ من المواطنة ، حيث تبقى محاربة الإسلام أمام الغالبية في بلدان المسلمين خيانة عظمى للأمة وللوطن ؛ كونها في أساسها محاربة لهوية المواطن في هذا الوطن .

     ومن هنا فإنه يمكننا أن نقول : إنه لا يمكن تحديد القيم العليا التي تبنى عليها المواطنة إلا بالنظر إلى طبيعة كل وطن من الأوطان على حدة ، فإن العلمانية في أوروبا مكون أساسي من مكونات المواطنة ، بينما الدين في العالم الإسلامي وفي المملكة العربية السعودية خصوصاً جزء لا يتجزأ من مفهوم المواطنة , وكما يكون النظام السياسي الجمهوري في تركيا أو الولايات المتحدة أحد مفاهيم المواطنة التي تتبناها الدولة والشعب ؛  فإن النظام الملكي في دول الخليج هو أيضاً جزء لايتجزأ من مفهوم المواطنة .

ومما تقدم يتبين الجواب على السؤال الذي يطرح دائماً على المستوى الديني والثقافي ، وهو هل تتعارض المواطنة مع الدين ؟ وجواباً عليه نقول : إن المواطنة في الدول الإسلامية لاتتعارض مع الإسلام حيث إن الإسلام بقيمه العليا وقواعده المشتركة وأحكامه المتفق عليها هو جزء من القيم التي قام عليها الوطن , إلا أن تحديد القيم المشتركة والمتفق عليها بين الأفراد والدولة في الوطن الواحد يختلف من وطن إسلامي إلى وطن آخر ؛ ذلك أن المتفق عليه في المملكة العربية السعودية مثلاً هو السير على الكتاب والسنة وفق منهج السلف الصالح وقواعد الكتاب والسنة ، وهو قد يخالف ماشاع في بعض أوطان المسلمين الأخرى من اتفاقهم على رعاية مذهب آخر أو ما تعاقد عليه بعضهم على اختيار صورة من صور العلمانية كجزء لا يتجزأ من قيم المواطنة .

إن مطالبة بعض الليبراليين في المملكة العربية السعودية بإخراج الدين من مفهوم المواطنة مراعاة للاختلاف هو أشبه بمطالبة آخرين بإخراج النظام السياسي المستقر من مفهوم المواطنة لذات السبب , وليت شعري إذا جاملنا هؤلاء وأبعدنا الدين ليكون خارج قيم المواطنة وجاملنا أولئك بالتفريط في النظام السياسي التي قامت عليه المملكة العربية السعودية ليكون كلا الأمرين خارج مفهوم المواطنة ، ليت شعري إذا فعلنا ذلك فماذا يتبقى من قيمنا الوطنية , ليس ثمت إلا البقية الجغرافية التي أيضاً سوف تتفكك لتكون شذر مذر كل حزبٍ بما لديهم فرحون .

إن على العقلاء والمخلصين من أبناء الوطن وما أكثرهم ولله الحمد .. أن لا يجعلوا قيم المواطنة العليا في وطننا السعودية ( الدين – النظام السياسي – البقعة الجغرافية ) مجالاً للهو واللعب من بعض السفهاء الذين شغلهم النظر إلى مقاصد قريبة ومصالح دنيا عن النظر إلى المقاصد البعيدة والمصالح العليا التي تجتمع بها كلمة المسلمين وتحفظ بها مصالح الأمة وغايات الملة ، جعلنا الله تعالى ممن يهدون بالحق وبه يعدلون .

كتبه /

د.سليمان بن صالح الخميس

جدة في 11/4/1437هـ

× whatsapp