Skip to main content

البيعة والولاية … رؤية فقهية فكرية

الحمد لله والصلاة و السلام على رسول الله: من القضايا الكلية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية: قضية الحكم والولاية، وما يتفرع عنها من البيعة والسمع والطاعة، وأحكام الخارجين على الدولة ونحو ذلك ، ولا شك أن الشريعة جعلت الأسلوب الأمثل لتعيين ولي الأمر هو الخلافة، وجعلت أنموذج الخلافة الراشدة هو الأنموذج الأمثل والسنة الراشدة الواجب إتباعها عند اختيار ولاة أمور المسلمين.

ولقد جاءت النصوص الشرعية التي تعتبر من المتواتر المعنوي بأن الخلافة الراشدة بعد رسول ﷺ لن تستمر طويلاً بل سيعقبها الملك، بل جاءت أحاديث بتحديد مدة الخلافة بأربعين سنة؛ ثم يلي ذلك الملك العضوض، وجاءت أحادي أخرى نصت على أنه سيأتي على الأمة عصور يشهدون فيها الولاة الظلمة، ومع ذلك فان الشريعة الإسلامية تعاملت مع كل ذلك كواقع موجود فبينت الحقوق والواجبات على الراعي والرعية في كل هذه الأحوال ، ويمكن أن ننظم بعض معالم التشريع في هذه القضية ضمن هذه الأصول الأربعة:

الأصل الأول :- ارتباط عقد الولاية بأهل الحل والعقد، وليس بعموم الناس، فمن عقد له أهل الحل والعقد البيعة ثبتت ولايته، ومن خلعه أهل الحل والعقد ثبت نزع الولاية عنه .

وأهل الحل والعقد يختلفون بحسب الأحوال والأزمان؛ فقد كانوا في عصر الخلفاء الراشدين هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وقد كانت هذه الطائفة تعقد العقد في المدنية للخليفة فيلزم ذلك عامة الناس في الشام و مصر والعراق وغيرها من أمصار المسلمين، وبعد عصر الخلافة الراشدة واستقرار الأمور لدولة بني أمية كان أهل الحل والعقد هم أمراء بني أمية ومن معهم من وجهاء دمشق وعلمائها فمتى ما عقدوا البيعة للخليفة بدمشق لزمت البيعة بقية الناس في سائر الأمصار.

الأصل الثاني :- أن الخروج على ولاة الأمر من الأمور المحرمة، وهو في حقيقته خروج على الأمة، وعلى كافة المسلمين الذين قبلوا هذه البيعة ، ولذلك يقول النبي ﷺ { من أتاكم وأمركم جميعٌ على رجل واحد يريد أن يفرق جمعكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان } وهو نصٌ صريح في أن الخروج لا يتعلق بشخص الوالي بل هو يتعدى ذلك إلى الخروج على الأمة بعمومها لأن الأمة من خلال أهل الحل والعقد هي التي بايعت ولي الأمر واختارته.

الأصل الثالث :- أن الخروج على ولي الأمر لا يجوز إلا في حالة الكفر البواح وقد ذكر ذلك النبي ﷺ في قوله { إلا أن تروا كفر بواحًا عندكم من الله فيه برهان } ولهذا فقد جعل أهل العلم لوجوب الخروج أو لجوازه على ولي الأمر أربعة شروط:-

١- وجود الكفر البواح . والمراد بالبواح هنا الصريح وغير القابل للتأويل، فلا يمكن الخروج لوجود مكفر مختلف فيه بين أهل العلم، بل لابد أن يكون المكفر مما أجمع عليه أهل العلم.

٢- أن يكون المكفر ظاهراً للعموم لقوله ﷺ في الحديث { تروا } والرؤية هنا بمعنى المشاهدة وتتضمن العلم اليقيني بالحال .

٣- وجود البرهان وهو الدليل ويشمل ذلك الدليل على التكفير بهذا المكفر والدليل أيضاً على وقوعه وحصوله؛ ذلك أن عدم وجود الدليل على حصول المكفر يوجب الفتنة بين الناس لأن بعضهم يثبت وجود الواقعة المكفر بها وبعضهم ينفيها .

٤- التمكن من خلع ولي الأمر دون فتنة، ولو مع مفسدةٍ أقل من بقاء الحال كما هو عليه؛ ذلك أن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح ولهذا لما اجتمع بعض علماء بغداد عند الإمام أحمد وطلبوا منه أن يأذن لهم في الخروج على الواثق لأنه كان يلزم الناس بالقول بخلق القرآن نهاهم عن ذلك وقال : اصبروا حتى بتسريح برٌ أو يستراح من فاجر. وصارت هذه الكلمة من مناهج أهل السنة والجماعة، الصبر على الوالي لعل الأمة تستريح بهدايته أو تستريح منه بموته.

الأصل الرابع :- إن قضايا الحكم والخلافة وان كانت من القضايا الكلية إلا أنها لا توضع في ترتيبها من حيث الأولوية قبل قضايا العقيدة والشريعة الأصلية ذلك أن الأمة أجمعت على تقبل النقص في قضايا الحكم لأجل غيرها من القضايا الكبار، واتفقت على أن المحافظة على أقامة العقيدة والشريعة أولى منها، وإنما جاءت الشريعة باحتمال الحاكم الظالم وعدم الخروج عليه حفظًا لمصالح الناس الدينية والدنيوية؛ ذلك أن مفسدة الخروج تعود على دين الناس بالفساد وعلى دنياهم بالدمار فاحتملت المفسدة الدنيا لدفع المفسدة الكبرى.

وفي هذا الأصل الأخير افترقت الجماعات الإسلامية حيث بنت الجماعات التي تهتم بالإسلام السياسي رؤيتها على أن الإصلاح السياسي هو البداية ، ويطرحون المنهج الديموقراطي غالبا لمواجهة الخصوم، ويواجهون الأنظمة التي لا تتمثل بالديموقراطية ظنا أنها سبب الحيلولة بين الناس وبين الدين ، ويهتمون بتوعية النخب والأجيال عموما فكريا وسياسيا في قضايا الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية .

وبمقابل ذلك فإن الجماعات الوعظية والطرقية يبنون رؤيتهم على عدم الدخول في ذلك كله والاكتفاء بالدعوة إلى الإصلاح الديني التعبدي والأخلاقي السلوكي والروحي الطرقي، وبين هؤلاء وهؤلاء يسلك السلفيون مسلك التركيز على قضايا العقيدة وكليات الشريعة وما يحتاجه عموم الناس من شعائر الدين الظاهرة والباطنة، معلنين القبول بالتنازل عن قضية نوعية نظام الحكم لما هو أهم منها من صلاح أديان الناس ودنياهم ، ويتجه السلفيون نحو إصلاح الحاكم مباشرة بنصحه وتذكيره ووعظه بالتي هي أحسن أو بالتغليظ عليه بحسب المصلحة ، وحيثما وجد السلفيون طريقا للتحالف مع الحاكم لأجل إقامة دين الله ولو وافقوه فيما يتعلق بنوعية النظام الحاكم فإنهم يحتملون ذلك ؛ دفعا للمفاسد العظمى وتحصيلا للمصالح الكبرى ، ويرتكبون لأجل هذه المصالح المفسدة الدنيا، ويفوتون المصلحة الدنيا معتقدين ذلك دينا يتدينون به لله جل جلاله، وهم أسعد الطوائف الثلاث بموافقة الدليل، وأبصرهم في تحصيل مقاصد الشريعة ، وطريقتهم أحكم الطرق وسبيلهم أسلم السبل ، جعلنا الله من أهلهم وحشرنا في زمرتهم ووفقنا وجميع المسلمين للزوم ما كان عليه محمد بن عبدالله ﷺ وأصحابه إنه جواد كريم.

× whatsapp