الهمة هي نهاية ما يطلبه الإنسان وهي غاية مراده ، وتقول العامة قيمة كل امرئ ما يحسن وتقول الخاصة : قيمة كل امرئ ما يطلب – يعني بحسب همته – .
الهمة هي أساس النجاح، وإنما عَظُم من عَظُم بعلو همته، وسَفُل من سَفُل بدنو همته.
نجح المجد وحاز على مراتب المجد لأنه ذو همة علية وتكاسل المتكاسل، وقعد القاعد لأنه ذو همة متدنية سافلة .
من الناس من همته لا تربو على مراد فرجه وبطنه، ومن الناس من همته في علو الدنيا ومجدها، ومن الناس من همته علو الآخرة والجنة . والله يقول : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } .
وإنما يتفاضل الناس بقدر هممهم ، وفي ذلك يقول أبو الطيب:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
اجتمع عبدالله بن عمر وعروة بن الزبير ومصعب بن عمير وعبدالملك بن مروان – رضي الله عنهم أجمعين – بفناء الكعبة. فقال لهم مصعب: تمنوا فقالوا: ابدأ أنت.
فقال: ولاية العراق وأن أتزوج سكينة ابنة الحسين، وعائشة ابنة طلحة ابن عبيد الله، فنال ذلك وأصدق كل واحدة خمسمائة ألف درهم وجهزها بذلك.
وتمنى عروة بن الزبير الفقه وأن يحمل عنه الحديث؛ فنال ذلك حتى صار أحد الفقهاء السبعة الذين حمل عنهم الفقه.
وتمنى عبدالملك بن مروان الخلافة فنالها.
وتمنى عبدالله بن عمر الجنة ونالها.
من الهمم ما يجوز بصاحبه القمم، ومن ذلك همة الصديق والفاروق رضي الله عنهما ، وقد جاء في منزلته ما رواه أبو سعيد الخدري- رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ( إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَوْنَ مَنْ فَوْقَهُمْ، كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا ) رواه في شرح السنة، وروى نحوه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه .
وهذا ربيعة بن كعب رضي الله عنه يقول : كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم نهاري فإذا كان الليل آويت إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبت عنده فلا أزال أسمعه يقول: (سبحان الله سبحان الله سبحان ربي) حتى أمل أو تغلبني عيني فأنام!
فقال يوما: يا ربيعة سلني فأعطيَك؟ فقلت أنظرني حتى أنظر؛ وتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة! فقلت: يا رسول الله أسألك أن تدعو الله أن ينجيني من النار ويدخلني الجنة فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: من أمرك بهذا؟ فقلت: ما أمرني به أحد ولكني علمت أن الدنيا منقطعة فانية وأنت من الله بالمكان الذي أنت منه فأحببت أن تدعو الله لي قال: (إني فاعل فأعني على نفسك بكثرة السجود) هذا لفظ أحمد وأصله في مسلم.
إن مصيبة الإنسان في همته أشد من مصيبته في ماله ، ذلك أن صاحب الهمة حري به أن يدرك ما فاته بعلو همته وصبره وجلده ، لكن ضعيف الهمة لا جبر لمصابه فهو في الوحل لا يرغب أن يخرج منه ، وما لجرح بميت إيلام .
إن مرض دنو الهمة يصاب به الفرد وتصاب به الأمة ، فأما الفرد فداؤه فيه ، ولا يضر إلا نفسه، ولكن المصيبة في دنو الهمة إذا أصيبت به الأمة
إن من أثار نزول هذا الداء في الأمة قبولهم الجماعي بالمهانة ، حتى إنك تجد الأمة تقتل في أبناءها وتسب في دينها ولا يثور لذلك أحد ، بل إن من يثور يوصف بالجاهل أو الطائش أو الغالي وغير ذلك من الأوصاف التي لا تخفى .
ومن آثار نزول هذا الداء بالأمة قل الطموح بدعوى التدرج في بلوغ الأهداف ، فليس حكم الكتاب والسنة هو الغاية ، وإنما الغاية الحكم الذي لا يعارض الكتاب والسنة أو ما هو وفق الشريعة الإسلامية ، وبين الأمرين فرق ، إذ الإيمان لا يتم إلا بحكم الكتاب والسنة لا بحكمٍ آخر لا يعارض الكتاب والسنة أو يتفق معهما .
ومن آثار دنو الهمة على مستوى الأمة أن تختار الأمة لمن يتولى المناصب فيها بين السيئ والأسوأ، ولا تختار بين الفاضل والأفضل، ولسان حال الأمة يقول : حنانيك بعض الشر أهون من بعض.
ومن آثار دنو الهمة على مستوى الأمة الخلط بين مقام الأفراد والأتباع ومقام الأمة ، فتختزل الأمة بشخص واحد، إن أكرم فقد أكرمت الملة وعزت الأمة واستقام حال الدعوة ، وإن أهين فقد أهينت الأمة وانتقصت كرامة الملة وضاعت هيبة الدعوة ، وأما أصحاب الهمة العالية فلا يخلطون بل يقول قائلهم: هل أنت إلا أصبع دميت …. وفي سبيل الله ما لقيت
إن الملاحظ أن كثيراً من الفضلاء والأكارم لهم في أنفسهم همة عالية، ويطلبون في أحوالهم أرفع المقامات الدينية والدنيوية ، فإذا تعلق الأمر بمطالب الأمة قالوا بالوسطية، وبمراعاة اختلاف الزمان ولأحوال، وليست نفسه بأعز من دين الله ولا من أمة الإسلام، وحال الشرفاء بذل أنفسهم وأولادهم وأهليهم وأموالهم في سبيل عزة أمتهم ، والله المستعان.