Skip to main content

الثوابت والمتغيرات

الحمد لله الصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
كثر في الآونة الأخير الحديث عن مصطلح الثوابت والمتغيرات في الشريعة الإسلامية، وخاض فيه طوائف من الناس من شتى الاتجاهات، بعلم وبغير علم فأحببت أن أشارك في هذا المجال لعل جاهلا يتعلم ومجتهداً يتفطن وصاحب هوى تقام عليه حجة وما ذلك على الله بعزيز.

إن هذا المصطلح الثوابت والمتغيرات مصطلح حادث في عرف أهل الشرع ، وتقسيم الدين إلى ثوابت ومتغيرات ليس له فيما أعلم من كلام السلف أصل ، وإن كان بعض علماء السلف تكلموا عما له علاقة بالموضوع كمسائل الإجماع والمصالح وتغير الفتوى بتغير الزمان .
وعلى كل حال فالذي ينبغي قبل الدخول في صلب هذا الموضوع يبان المراد من هذين المصطلحين .
الثوابت هي ما كان من الدين مجمعاً عليه أو معلوماً حكمه بدليل لا مجال للاجتهاد فيه سواء كانت هذه المسائل مما لا يسع المسلم جهله كفرضية الصلاة أو كانت مما يمكن أن يخفى على بعض الناس كأنصبة المواريث ونحوها.
وتكون الثوابت الشرعية في العقائد كأصول الإيمان الستة وفي العبادات كأركان الإسلام الخمسة وفي المعاملات كتحريم الربا والغش وفي الأخلاق كتحريم الفواحش والكذب والخيانة ونحوها.
ويرى بعض من كتب في هذا الموضوع قصر الثوابت على ما أجمع عليه فقط، وهي بهذا لا تشمل من الأحكام إلا ما كان منكره كافراً وهو ما يسمى عند علماء الملة المعلوم من الدين بالضرورة، وأما ما اختلف فيه فهو ضمن نطاق المتغيرات، وعلى هذا القول فليس من الثوابت ما قال به أهل السنة والجماعة إذا خالفهم غيرهم من أهل البدع !!!
وأما المتغيرات فهي عند بعض الباحثين تلك المسائل التي هي محل اجتهاد بين الفقهاء ولا يسوغ فيها الإنكار على المخالف لكونه مجتهداً وهي كثيرة مثل بعض أحكام الصلاة المختلف فيها وبعض مسائل الحجاب وغيرها.
ويرى آخرون أن المتغيرات هي ما سوى المسائل المجمع عليها فكل ما اختلف فيه المسلمون وليس محل إجماع فهو من المتغيرات التي يسع الناس فيها أخذ ما يرون مناسبته لهم.
ولعل سائلا يسأل ما سر الحديث عن الثوابت والمتغيرات في هذا الوقت ؟
فالجواب هو أن ضعف المسلمين في العصر الحديث أدى إلى طمع أعدائهم في الغرب بهم فرتبوا لهجمة استعمارية جديدة تقوم على ركيزتين:
الركيزة الأولى: الحرب الفكرية والنفسية وذلك بمحاربة المسلمين في عقائدهم وأصولهم وإحساسهم بضرورة تغريب أفكارهم ليلحقوا بركب الحضارة، وهذا يتضمن أول ما يتضمن تشكيكهم بثوابتهم التي يتميزون بها هل هي ثوابت أو هي مجرد عادات وتقاليد يمكن أن تستبدل ؟
الركيزة الثانية: الحرب الاقتصادية والتقنية وهي ما يضمن بقاء الغرب متفوقاً على الشرق الإسلامي، ولو اضطر الغرب في ذلك إلى شن حرب عسكرية من أجل ضمان التفوق الاقتصادي.
ومع هاتين الحربين أحس كثير من أبناء المسلمين بما لحق المسلمين من ذل وانكسار فانقسموا إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قوم تنكروا لدينهم ومبادئهم ورأوا إن الارتماء في أحضان الغرب هو الحل الأمثل لمشاكل المسلمين، وأنه لا سبيل للنهوض بالعرب إلا بتقليد الغرب حذو القذة بالقذة دون انتقاء من الفكر الغربي، وهؤلاء درجات في قناعتهم فمن متهم للإسلام بأنه سبب عجز المسلمين لقصوره عن مواكبة التطورات ومن متهم للمسلمين بفهم الخاطئ للإسلام على أنه يحكم جميع شؤون الحياة مع أن الإسلام عند كالنصرانية عند الغرب مقصور على دور لعبادة والأخلاق دون التعامل وشؤون الحياة.
وعامة هؤلاء هم العلمانيون سواء المتطرفون أو المعتدلون منهم.
القسم الثاني: قوم أهل غيرة على دين الله لكنهم وأمام سيطرة الغرب أحسوا بالعجز عن المواجهة فاستسلموا للتغريب ورأوا أن الجمع بين كثير مما عند الغرب وبين الإسلام ممكن من خلال أخذ ما لا يتعارض مع القطعيات الدينية وإبقاء غير القطعيات محلاً للنظر والمناقشة فهم في كل يوم يقدمون تنازلاً عن أحد هذه الظنيات ـ كما يقولون ـ بدعوى العمل بروح الشريعة تارة وبالمصالح تارة وبمراعاة اختلاف الظروف تارة وباختلاف العرف والعادة تارة أخرى.
ويمثل هؤلاء العصرنيون أو العقلانيون أو التنويريون كما يحلو لبعضهم أن يسمي نفسه.
القسم الثالث : من جزم بأن الرجوع إلى أصول الأمة هو السبيل الصحيح لمواجهة هذه الحرب الشعواء من الغرب لكن حتى هؤلاء درجات فمنهم من أخذ بالجهاد ومنهم من أخذ بالعلم ومنهم من أخذ بإصلاح النفوس ومنهم من أخذ بالتربية الفكرية .
والسعيد من دخل في السلم كافة ، فقبل دين الله كافة ، وعمل ما يراه أنسب لنفسه وأصلح لحاله .
ومن هنا فقد اتفق القسمان الأول والثاني ( العلمانيون والعصرانيون ) على قضية واحدة هي تضييق دائرة الثوابت وتوسيع دائرة المتغيرات ، وهذا الاتفاق هو اتفاق مرحلي لا فكري وإلا فبعضهم لبعض عدو والله المستعان .
ولهذا فإننا نلحظ كثرت طرق هذا الموضوع مؤخراً بسبب اتفاق هاتين الطائفتين عليه .
وهنا بقي سؤال أخير : ما موقفنا من مصطلح الثوابت والمتغيرات ؟
قبل الجواب على هذا السؤال أقول إن المسائل الشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : المسائل القطعية وهي المجمع عليها كعقيدة أهل السنة من حيث الجملة أجمع عليها الصحابة والتابعون قبل ظهور الفرق ، وكذلك وجوب الأركان الخمسة وغيرها في العبادات وكذلك تحريم الكذب والخيانة ووجوب الصدق وأداء الأمانة في الأخلاق وكذلك جواز البيع وحرمة الربا في المعاملات فهذه وأمثالها هي مسائل إجماع لا يمكن لمسلم أن يسعى لتغيرها أو التبديل فيها ، لكن إطلاق لفظ الثوابت عليها فيه نظر لكونه يوهم أن غير في دين الله محل للتبديل مع أن الله عز وجل قال ( اليوم أكملت لكم دينكم ) فالذي ينبغي أن تسمى بالمسائل القطعية أو الإجماعية .
القسم الثاني : المسائل الاجتهادية ، وهي المسائل التي اختلف فيها الفقهاء وكان لكل فريق دليله ومستنده على هذا الخلاف ، وفي الغالب أنها من المسائل المشهورة ، وهي تكون في العقائد كاختلاف أهل السنة في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا ، وتكون في العبادات كاختلاف الفقهاء في القراءة خلف الإمام وتكون في العادات كاختلافهم في كشف المرأة وجهها عند الرجال الأجانب وتكون في المعاملات كاختلافهم في مسألة التورق .
وهذه المسائل لا إنكار فيها فمن ذهب إلى قول عن اجتهاد أوتقليد لمن يثق بعلمه من الفقهاء فلا إنكار عليه ، ولكن هل يمكن أن نسمي هذه المسائل بالمتغيرات ؟
الحقيقة أن هذه المسائل لا يصح أن تسمى بالمتغيرات ؛ لأنها ثابتة في حقيقة الأمر ، الرب جل جلاله له فيها حكم واحد لكن التغيير في نظر المجتهد الذي هو بين الأجر والأجرين .
وعلى سبيل المثال : الحجاب فمن يرى وجوب تغطية الوجه يرى أن هذا هو حكم الله وأن المرأة التي تكشف وجهها للرجال الأجانب آثمة لكنه لم ينكر لكونها فعلت ذلك تأولا للأدلة ، فحكم الله عنه واحد وثابت لكن المجتهد يخطئ ويصيب .
القسم الثالث: المسائل الخلافية ، وهي تلك المسائل التي الخلاف فيها ضعيف أو شاذ ولا يستند إلى دليل كرد حديث المصراة بمجرد الرأي فهنا لا يعتبر الخلاف ويجب الإنكار وإفهامه الدليل الصريح الواضح ، ولا شك أن مثل هذه المسائل لا تستباح للناس بمجرد ورود الخلاف ، ولو فعلنا ذلك لانسلخنا من ديننا لكثرت من خالف في أصول الدين وفروعه .
ولعل من أمثلة هذه المسائل مسألة قيادة المرأة للسيارة فهي إن كان فيها خلاف فهو خلاف في مقابلة نصوص الشريكة العظام وأصولها الكبار التي نظمت وضع المرأة في المجتمع كقوله عز وجل : ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) ( قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهم من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) ( كلكم راع ومسؤول عن رعيته ) .
وبهذا يتبين لنا أن مصطلح الثوابت والمتغيرات هو مصطلح حادث الهدف منه تبرير علمنة الدين وقصره على بعض شؤونه ليبقى ما يسمونه المتغيرات مجالاً للعبث والتلاعب تبعا لعقول الناس وأهواء الساسة .
ولعل قائلا يقول ما علاقة المتغيرات بقاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال والتي ذكرها ابن القيم في إعلام الموقعين ؟
فالجواب إن هذه القاعدة صحيحة لكن ليس معناها أن الحكم الشرعي يتغير مراعاة للزمان بل المعنى أن الشريعة قضت أن الحكم الشرعي في زمن كذا هو كذا وفي حال كذا هو كذا ولعل المثال يوضح المقال :
ذكر الإمام ابن القيم لهذه القاعدة أمثلة منها عدم قطع يد السارق في المجاعة وترك إقامة الحدود في بلاد الكفار ، والمراد أن حكم السارق القطع إلا في حال المجاعة لوجود الشبهة المانعة من إقامة الحد وكذلك الحدود لا تقام في بلاد الكفار ولو بين المجاهدين لعدم تمام الولاية التي هي شرط لإقامة الحد ، وهذا هو الحكم الشرعي بأكمل وليس معنى القاعدة أن نغير في دين الله بحسب الزمان ،فلم يقل بذلك أحد من أهل العلم فالقاعدة تدل على كمال الشريعة وحسنها ومراعاتها لمختلف الأحول بنفسها لا بوصاية الناس عليها .
وأهل النظر في هذه القاعدة وتطبيقاتها هم الأئمة الربانيون الذي هم أهل الخشية من الله وأعلم الناس بشرع الله عز وجل ومقاصده، وليس النظر فيها لمن هم دون ذلك من أصحاب الأهواء الذين يريدون التلفيق بين الشريعة والحياة الغربية وإذا سئلوا قالوا ( إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ) والله المستعان.

× whatsapp