إن المتأمل في واقع الحياة الإسلامية المعاصرة ليجد أن الأمة بعامتها تمر بحالة من الاكتاب النفسي ، ولست أعني هنا أن آحاد الأمة مصابون بهذا الاكتئاب ، ولكني أقول إن الأمة بحالتها العامة مصابة بهذا الاكتئاب ، ومن مظاهر هذا الاكتئاب ما يلي :
أولاً / الخمول العام وعدم الرغبة في التصحيح مما يشير إلى أن الأمة مقتنعة بانتظار ظاهرة كونية تصحيحة للخلل الموجود مثل ذوبان القطب الشمالي وغرق العدو الأمريكي في البحر .
ومن هذا القبيل انتظار المهدي ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ، وهي في حقيقتها خمول وكسل عن القيام بأمر الله تعالى .
ثانياً / من مظاهر الاكتئاب النفسي في الأمة الرجوع التدريجي لدى طبقة ليست بالقليلة عن مبادئ كانوا يدعون إليها ويناظرون حولها فيما سبق .
والرجوع ليس سلبياً على الإطلاق لأن منه الرجوع إلى الحق والتوبة من الذنب ، لكنه في أحيان كثيرة يكون تحت تأثير ضغط الواقع والشعور بالعجز والفشل في مواجهة التحديات .
ثالثاً / من مظاهر الاكتئاب النفسي في الأمة التحول الفكري من موقف المهاجم القوي إلى موقف المدافع الضعيف ، فلم تعد لغة الخطاب هي لغة نقد الديمقراطية والعلمانية والشيوعية … ولكن كثر الكلام على أن ما لدى الآخرين من حسن فلدينا مثله ، ونحن لا نعارضه ، والإسلام دين اليمقراطية ودين الحرية ودين المساواة ودين العدل .
وفي الواقع فإن لهذه المصطلحات معان في الثقافة الغربية تخالف معانيها الحقيقية في الثقافة الإسلامية .
وأما أسباب الاكتئاب أو ما يمكن أن يسميه البعض الإحباط مع أني أظن أن تسميته بالاكتئاب أولى ؛ لأن الإحباط في حقيقته أحد مظاهر الاكتئاب ، والأمر واسع .
ولعل أبرز أسباب حالة الاكتئاب لدى الأمة هو عدم وضوح الهدف لدى أفرادها ، والله عز وجل قد بين لنا الهدف بقوله تعالى ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ) فظهور الدين على سائر الأديان هو الهدف من الرسالة لكن المشكلة أن أفراد الأمة لا يفرقون بين ظهور الدين والرسالة وبين ظهور الأفراد أو الجيل .
إن الله تعالى قد تكفل بمن خرج مجاهداً في سبيل الله بالنصر أو الشهادة ، لكنه تكفل للأمة بالتمكين بكل حال ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم … ألآية ) فالأمة لها التمكين بكل حال ، وأما الأفراد فقد يمكنوا وقد يموتوا قبل ذلك .
لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أن من قتل في الجهاد قبل التمكين أسعد حظا مما بقي لمرحلة التمكين ، فهذا هو عتبة بن غزوان يخطب وقد صار أمير الكوفة ، ويذكر مصعب بن عمير فيقول : ( مضى ولم يأخذ من أجره شيئاً ، … وأخشى أن تكون حسناتنا عجلت لنا )
ولقد ذكر الله لنا في سورة المائدة أن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر وأقبلوا على فلسطين ـ الأرض المباركة ـ أخبرهم موسى عليه السلام أنها لهم وأمرهم بدخولها ، فرفضوا ذلك حتى قالوا : ( إذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قعدون ) والسبب أن كل واحد من أفرادهم قد ربط نصر الأمة وتمكينها بنصره هو وتمكينه .
وهذا هو حالنا في العصور الحديثة لا نفهم من تمكين الأمة إلا أن نمكن نحن ، وإذا لم يكن ـ وهذا أمر طبيعي لعدم أهليتنا ـ فهذا يعني عدم تمكين الأمة وضياع الدعوة والدين وهو ما يورث الاكتئاب في نفوس الشباب وغيرهم …
أذكر كلمة قالها لي أحد الدعاة حينما سألته عن الدعوة في بلده ، قال : (( الدعوة دين الله لا بأس عليها ، السؤال عن الداعي والمدعو )) وصدق وفقه الله .
وأما السبب الثاني من أسباب الاكتئاب الأممي والذي هو ـ من وجهة نظري ـ السبب الأظهر في تبرير حالة الاكتئاب التي تمر بها الأمة ، فبهذا السبب يعتذر جميع من ناقشتهم في حالة الاحباط واليأس إما صراحة أو ضمنا .
هذا السبب هو : الهزيمة العسكرية التي منيت بها الأمة في افغانستان وفي العراق ، وتمثل طالبان في أفغانستان الاتجاه الإسلامي المتشدد ، ويمثل البعث في العراق الاتجاه القومي المتشدد ، وقد هزم الطرفان في وقت متقارب مما جعل أفراد الامة يشعرون بحالة من الذهول والخيبة وفقد الثقة في تيارين كبيرين ساروا في ركابهما سنين طويلة ليحصدوا الهزيمة والضياع ـ من وحهة نظرهم ـ .
لقد كان لهزيمة الطالبان أثر نفسي سيئ على المنتمين للتيار الإسلامي ، وخاصة السلفي وما زالت صور المعتقلين في قوانتناموا صفعة يفيق عليها كل غيور على الجهاد في سبيل الله وما أكثر الشامتين بالمسلمين عند رؤية تلك الصور .
وأما العراق فقد كان لهزيمة البعث فيه أثر مماثل على المنتمين للتيار القومي عموماً ، وصار صدام درساً ومثلاً لكل زعيم تسول له نفسه الخروج عن الدائرة الحمراء المخطوطة قريباً جداً من قدمية من قبل أسيادة ، وكم شمت بنا الناس بسبب فعل البعث وزعمائه في العراق .
ونتج عن هاتين الهزيمتين تشكيك الإسلاميين والقومين على حد سواء بما يحملانه من مبادء وقيم ؛ فطفق الطرفان يحاولان التجديد في الطرح الفكري الذي كانا يتبنيانه مدة من الزمن .
ورغم اشتراك الطائفتين في الهزيمة والمأساة إلا أنهما كما كانا مختلفين قبل الهزيمة فقد بقيا أيضاً مختلفين بعدها ، حيث اتجه غالب القوميين إلى الليبرالية فكرياً والديمقراطية سياسياً والرأسمالية اقتصادياً فطالبوا بانتقال المجتمع إلى الصورة الأمريكية بحذافيرها …
أما الإسلاميون فقد اتجهوا إلى نسخة معدلة من الإسلام يمكن أن يطلق عليها اسم الإسلام الليبرالي ، وما أكثر دعاته في هذا العصر ، وهم مقل منه ومستكثر ، فمنهم من هو في أول الطريق ومنهم من انغمس فيه انغماساً حتى صار ليبرالياً أكثر من الليبراليين .
وعودا على بدأ فقد كان للهزيمة التي مني فيها المسلمون في أفغانستان وفي العراق أثر كبير فيما ذكرت ، لكن مع ذلك فإن من عادة أمتنا الولود أن مثل هذه الأحدث تسكرها فترة ثم تعود إلى الإفاقة أشد مما كانت عليه ، وهذا ما نلمسه بعد مرور أربع سنوات على غزو العراق ، والمتوقع في السنوات الخمس المقبلة ـ إن شاء الله ـ أن تشهد الأمة بجميع قطاعاتها صحوة راشدة على هدي السلف مع فهم عميق لأصول الدين ومقاصده ، فعليكم بسنة رسولكم الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسنة الخلفاء الراشدين عضو عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ، وعلموا أن الناس عن قريب للحق راجعون فإذا وجدوكم بالحق مستمسكين كان هذا أعظم ما يدعوهم للحق والثبات عليه .