فى مكتب العمل
فى مكتب العمل
دخل علينا ووجهه مليء بالحزن والغضب والكئابة ، ضننت أنه بعد أن يجلس سيحدثني عن مشكلة جديدة مع زوجته أو ابنه
جلس ولم يتكلم ، بادرته التحية : صباح الخير
نظر إلي وقال صباح الخير .. ثم حاول أن يتشاغل عني بأوراقه .
قلت له : عادي كل الناس يتخانقون مع زوجاتهم في الصباح ، والظهر يرجعون فيتغدون ويُرضون …وينامون
– ابتسم وقال : كعادتك فارغ ، وتختصر مشاكل الناس في حواء ، على كل اليوم فلانة ما قصرت معي، فطرتني وأخرجتني من الفجر إلى مكتب الاستقدام
– من الفجر ! لماذا هل عادت زمن الاكتتابات الذهبية ، ومكتب الاستقدام سيخصص ويباع .
– لا ـالشغالة تريد السفر ويجب أن تحضر بديلتها قبل سفرها ، وهل تعلم لماذا؟ لأنها أهم شيء في البيت ، إنها أهم مني .
– لا لا تكن متشاءما ، أهم منك هذا كلام مبالغ فيه .
-لا تقل لا ، هذه هي الحقيقة ، أسافر اسبوع لا مشكلة ،لكن الشغالات بالمملكة يطالبن بإجازة يوم واحد والشعب كله يرفض ، وبالمناسبة تخصيص مكتب الاستقدام فكرة رائعة ، أظن أنه أربح من الشركات القيادية في البلد .
– اترك تخصيص الاستقدام لكن عسى موضوعك انتهى
– انتهى لكن لو تدري ما الذي رأيته هناك
رأيت كما يرى الناس في مكتب الاستقدام طابور وأرقام ورجال غاضبين وقد خرجوا من بيوتهم مغضوب عليهم ، لا جديد
سأخبرك وقبل أن أخبر أقسم لك أنها الحقيقة وليست من نسج خيالي
أخبرني ولا تقسم
كنت في صالة الانتظار وكان رقمي قبل العشرين فالتفت يميني فإذا في وسط الصالة رجل معاق على كرسيه ومعه أخوه وهو أيضاً يعرج ، نظرت في كرسيه المتحرك فإذا عربته من العربات العادية التي تشبه الموجود في المستشفيات لكنها صدئه وعجلاتها تلفت فلم يبق منها إلا الحديد ، والجلد الذي عليها قد تلف بالكامل
استغربت وترددت هل أسأل أو اسكت ؟
تشجعت ناديت المرافق وسألته عن هذا الرجل ولماذا عربته بهذا الحال ؟
أخبرني أنه لا يملك غيرها ، قلت له هل يرغب أن أشتري له واحدة ، فقال لا أعلم لابد أن أستاذنه
ذهب وتحدث مع أخيه ثم رجع وأخبرني بأنه يقول لا مانع
طلبت منهما أن ينتظراني حتى أنهي معاملتي ثم أخرج معهما وكذلك فعلت .
في المدخل الرئيسي لم يكن هناك مدخل معاقين ، والمرافق لا يستطيع أن يشارك في حمل العربة لكونه يعاني من عرج شديد لا يمكن معه النزول من الدرجات الثلاث بالعربة
جاء أحد الأخوة السودانيين وكان جار لهما ، حملنا العربة سويا حتى أنزلناها من الدرج
في جميع الدول بل وفي كل القوانين الإدارات الحكومية ملزمة بوضع مداخل خاصة للمعاقين ، لكن أحيانا ينسى المختصون تنفيذ بعض القوانين إذا كانت تتعلق بطائفة لا تستطيع أن توصل صوتها .
تحدثت مع صاحبي المعاق أخبرني أنه يعمل موظف في ورشة ( حسابات ) وأن راتبه ألف وسبعمائة ريال فقط وأنه يحتاج إلى سائق يوصله إلى العمل ، وقد جاء إلى مكتب الاستقدام فطلب منه شهادة براتب لا يقل عن ثلاثة آلاف وخمسائة ريال أو كشف حساب بنكي لمدة لا تقل عن ستة أشهر يستطيع الموظف أن يتأكد من قدرة المعاق على سداد التزامات السائق .
صدقني يا زميلي قلتها من كل قلبي : حشفا وسوء كيل
نمنعه حقه من الراتب الذي يستحقه من بيت المال ثم نمنعه من سائق وخادم بحجة أنه فقير فعلا : حشفاً وسوء كيل
خرجت مع صاحبي وكلي ألم وخوف من عقوبة عامة ، وتذكرت أن الناس صلوا في صباح هذا اليوم صلاة الاستسقاء
ابتسمت وقلت في نفسي : إن عذبوا فبعدله …
بكيت من كل قلبي ذهبت معه إلى محل مختص بعربات تناسب الاستخدام الطويل وطلبت من أن يختار ما يناسبه
حدثت صديقا آخر يعاني من الشلل الرباعي في أطرافه لا في روحه ، قال لماذا لم تأخذ هاتفه لعله يحتاج شيئا آخر فنساعده
قلت لصاحبي : لم أنس ذلك لكني رحمت قلبك ولم أرد أن أزيد أعباءك وأنا أعرف جهودك في دعم إخوانك
قال لي صاحبي : لقد تشرفنا في الأسبوع الماضي بالسلام على معالي وزير الشؤون الاجتماعية ، في موعد طالبنا فيه منذ سنة ونصف تقريبا أتعلم ماهي نتيجة الزيارة
قلت خير إن شاء الله :
قال : نتيجة الزيارة أن الوزير اكتشف أننا أخلفنا موعدنا فجئنا ستة وقد كان العدد الذي وافق على مقابلته أربعة فقط
ولكنه مع ذلك تكرم وعفا عن هذا الخطأ غير المقصود
قلت ثم ماذا
قال معالي الوزير إنه لا يريد أن يشعرنا بأننا نعاني من إعاقة ولذلك لم ولن يقبل أي شيء من طلباتنا حتى نشعر أننا كغيرنا نمشي ونركض ونرقص ولا نشعر بالتميز والضعف .
قلت لصاحبي : وماذا قلتم أنتم يا أصحاب الشأن ؟
قال : قلنا : إن لم تشعرونا بأننا مميزون لما أصابنا من ابتلاء فإنه ليس أمامنا إلا ذل سؤال الناس وهو سيشعرنا أكثر بأن غيرنا تميز علينا
أخيرا قلت لصاحبي : وما طلباتكم ؟ قال : ……
وهنا وقف القلم ليحيل على كل ذي عقل سليم وقلب رحيم وإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم …