مفهوم العزلة في زمن الفتنة
بسم الله الرحمن الرحيم
ان من قضايا الدعوة الكبرى الحديث عن منهجية العمل في أزمنة الفتن وشيوع الفساد وظهوره ، ولقد مرت الأمة في مختلف عصورها بشيء من ذلك ؛ فكل بدايات الدعوة هي في مثل تلك الأزمنة ، فالفترة المكية والحال قبل معركة بدر الكبرى في المدينة ؛ وكذلك ما أصاب المسلمين في عهد تولي المأمون أو عند تسلط الحجاج بن يوسف عليهم أو ما أصاب المسلمين في أفريقيا في عهد الدولة العبيدية ؛ كل ذلك يعتبر من حالات الاستضعاف العام التي يحتاج المسلم الداعية أن يعرف كيف يتعامل معها وفق الأصول الشرعية .
إن المتأمل لنصوص الشرع المطهر يجد أن أحكام العزلة لم ترتبط بظهور الفساد وعلوه وانما ارتبطت بإمكانية الإصلاح من عدمها ، ففي العهد المكي كان الفساد غالبا ولم تقف الدعوة او تتوانى لوجود إمكانية الاصلاح ، وأما اذا تعذر الإصلاح وغلب على الظن عدم الاستجابة فالمشروع للمسلم في هذه الحالة أن ينشغل بما فيه نجاته ومن معه من المؤمنين ؛كما صنع نوح بعد أن أُوحي اليه أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن ، فانشغل ببناء السفينة ( وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) سورة هود (36)
لقد جاء القرآن الكريم في بيان الحكم في مثل هذه الحالة – حالة عدم الاستجابة – فقال تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) [المائدة:105] وبين معناها أبو بكر الصديق في الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي السُّنَنِ عَنْه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِ مِنْهُ» وهذه الآية فيها أبرز مهام المنهج في حالة ظهور الفساد ، وقد لخصها شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله في خمسة أوجه وهي على النحو التالي :
أَحَدُهَا: أَلَّا يَخَافَ الْمُؤْمِنُ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوهُ إذَا كَانَ مُهْتَدِيًا.
الثَّانِي: أَلَّا يَحْزَنَ وَلَا يَجْزَعَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ مَعَاصِيَهُمْ لَا تَضُرُّهُ إذَا اهْتَدَى وَالْحُزْنُ عَلَى مَا لَا يَضُرُّ عَبَثٌ ، وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ مَذْكُورَانِ فِي قَوْلِهِ: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}.
الثَّالِثُ: أَلَّا يَرْكَنَ إلَيْهِمْ وَلَا يَمُدَّ عَيْنَهُ إلَى مَا أُوتُوهُ مِنْ السُّلْطَانِ وَالْمَالِ وَالشَّهَوَاتِ كَقَوْلِهِ: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} فَنَهَاهُ عَنْ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُمْ فِي هذه الآيَةٍ وَنَهَاهُ عَنْ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ وَالرَّهْبَةِ مِنْهُمْ فِي الآيَةٍ السابقة ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَأَلَّمُ عَلَيْهِمْ وَمِنْهُمْ إمَّا رَاغِبًا بما عندهم وَإِمَّا رَاهِبًا لما فيهم من القوة .
الرَّابِعُ: أَلَّا يَعْتَدِيَ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي بِزِيَادَةِ عَلَى الْمَشْرُوعِ فِي بُغْضِهِمْ أَوْ ذَمِّهِمْ أَوْ نَهْيِهِمْ أَوْ هَجْرِهِمْ أَوْ عُقُوبَتِهِمْ؛ بَلْ يُقَالُ لِمَنْ اعْتَدَى عَلَيْهِمْ عَلَيْك نَفْسَك لَا يَضُرُّك مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْت كَمَا قَالَ: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وَقَالَ:{فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْآمِرِينَ النَّاهِينَ قَدْ يَتَعَدَى حُدُودَ اللَّهِ إمَّا بِجَهْلِ وَإِمَّا بِظُلْمِ وَهَذَا بَابٌ يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِيهِ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْإِنْكَارُ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْفَاسِقِينَ وَالْعَاصِينَ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَقُومَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ الْعِلْمِ وَالرِّفْقِ وَالصَّبْرِ وَحُسْنِ الْقَصْدِ وَسُلُوكِ السَّبِيلِ الْقَصْدِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} وَفِي قَوْلِهِ: {إذَا اهْتَدَيْتُمْ}.( أ.هـ بتصرف يسير من مجموع الفتاوى 14/481 )
وهذه الأوجه الخمسة التي ذكرها شيخ الاسلام تمثل المنهج الأمثل في التعامل مع الناس والنوازل عند غلبة أهل الشر والفساد .
ومما يحقق هذه الأوجه ما يروى فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخشني مَرْفُوعًا «إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك بخويصة نَفْسِك» والحديث وان كان في إسناده اختلاف عند أهل الحديث إلا أن قوله (عليك بخويصة نفسك ) وفي لفظ ( فعليْكَ نفسَكَ ودع عنْكَ العوامَّ ) يدل على أن الانسان لا يكلف ألا ما يستطيع وهو يتفق مع قاعدة الشريعة الكبرى ( التكليف بالاستطاعة ) ولو لم يستطع المكلف إلا نفسه فهي مناط تكليفه أما ما زاد على ذلك فعليه بالصبر حتى يأتي فرج الله تعالى بأن يستريح بر بلقاء ربه على الإيمان والإسلام ، أو يستراح من فاجر بهلاكه ، واذا كان للمكلف استطاعة على الامر والنهي ولو لأهل بيته أو لقريبه أو لصديقه … لزمه ذلك .
قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله : ( اذا لم يستطع على إنكار المنكر، فعليه بنفسه، عند العجز، إذا عجز فليتق الله في نفسه، أما إذا استطاع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه يأمر وينهى ، أما إذا عجز ولم يجد له نصير بل عجز عن الأمر والنهي، ويخاف على نفسه من ضرب، أو سجن، أو أشد من ذلك؛ فهو معذور ) أ.هـ
ولا يجوز للمسلم أن يشارك في الفساد والافساد بحجة العجز ، بل يعتزل اذا لم يستطع الإنكار فإن في ذلك نجاته ويبلغ حكم الله بحسب استطاعته ، وليحذر من اتخذ العزلة مسوغاً لترك الامر والنهي أن ينبري لينكر ما يراه منكراً عند أهل الخير مما هو من المسائل الاجتهادية أو الفرعية فيكون في صف الظالم من حيث لا يشعر ويستغل إنكاره هذا لتبرير مزيد من الظلم والايذاء للمستضعفين فإن من تمام العزلة ألا يتكلم الانسان بما يتقوى به الظالم على ظلمه إلا مع تمام البيان ، فإذا تعذر تمام البيان سكت عن الجميع ، وهذا هو المفهوم من حديث ( فالزمَ جماعَةَ المسلمينَ وإمامَهم ، فإِنْ لم تَكُنْ جماعَةٌ ولَا إمامٌ فاعتزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّها ، ولَو أنْ تَعَضَّ بأصلِ شجَرَةٍ حتى يُدْرِكَكَ الموتُ وأنتَ كذلِكَ ) والعض على أصل الشجرة كناية على مسك اللسان وعدم الاصطفاف مع تلك الفرق الضالة التي تبحث عن لباس شرعي تلبسه ما معها من الباطل .
ومما يؤكد عليه أيضاً أن القول بالعزلة عند غلبة أهل الشر والفساد لا يتعارض مع بذل الوسائل الشرعية التي يغير بها الله تعالى الواقع وهي على النحو التالي :
- الرجوع إلى النفس وتغيرها بالتوبة والإنابة ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (الرعد : 11) وهذه هي البداية الصحيحة في هذا الموضوع المهم ، والدعاة وطلبة العلم أحوج الناس إلى لوم أنفسهم لوماً منتجاً للتغير في أنفسهم وفي من حولهم ( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون )
- لزوم الكف عن مناكفة الظلمة بغير الوسائل المشروعة كما قال تعالى في حكاية أمره للمسلمين قبل الهجرة بكف اليد ( ألم تر إلى اللذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة ) ، فالكف عن أهل الفساد إذا غلب فسادهم منهج إصلاحي وهو معنى الصبر المأمور به شرعا ، وعليه سلف الأمة رضي الله عنهم .
- الانشغال بالعبادة كما في الآية السابقة حيث قرن بين كف اليد وإقامة الصلاة ، وكما أمر الله تعالى موسى وهرون ( وأوحينا إلى موسى وهارون أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة ) أي بإقامة الصلاة فيها ، وعنْ مَعقِلِ بن يسارٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ( العِبَادَةُ في الهَرْجِ كهِجْرةٍ إلَيَّ)رواهُ مُسْلمٌ.
- الدعاء بفرج الله سواء بالدعاء للمستضعفين أو بالدعاء على الظلمة ولقد دعا أنبياء الله على الظلمة من المشركين وخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض المشركين بالدعاء عليهم ، ودعا الإمام أحمد أن لا يرى وجه المأمون فهلك المأمون قبل أن يصل أحمد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ليلة بدر حتى سقط رداءه وبقول في دعاءه ( اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ) وليعلم المسلم أن الدعاء عبادة بين المرء وربه وليس رسائل توجه للناس لا في مدح فلان ولا في ذم فلان ، وليحرص المسلم على الدعاء بصلاح الأحوال واجتماع الكلمة ونصرة الإسلام والمسلمين ودوام الأمن والسلامة من الفتن .
- اتخاذ القرآن زادا في الغربة ونعم الزاد وهذا خطاب الله للمسلمين في مكة يأمرهم بقراءة القرآن (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ( سورة المزمل20)
- تعلم العلم الشرعي وتعليمه ونشره وربط الناس بالدليل من الكتاب والسنة والحذر من التعلق بالأشخاص فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، وليكن منهجنا السؤال عن الدليل ، ومتى ما صدر الإنسان عن دليل فليقبل اجتهاده متى كان من أهله ووفق قواعد الاجتهاد التي ذكرها أهل العلم ، وليحمل اجتهاده المبني على هذه الأصول على أحسن محمل ؛ فصاحبه بين الأجر والأجرين ، إلا أن هذا لا يعني أن تكون نصوص الكتاب والسنة كلاء مباحاً للجهلة يردون عليها بغير بينة وبدون قواعد فيحرفوا دين الله بأهوائهم .
- السعي لتحصيل مبدأ التناصح والتواصي بين السالكين لطريق الإيمان بحيث تكون هذه التوجيهات فعلاً جماعياً لأهل الحق بمجموعهم قدر الإمكان ، ولذلك جاء الخطاب في الأدلة بصيغة الجمع ( عليكم أنفسكم ) ( كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة ) ( يغيروا ما بأنفسهم) وهذا هو مفهوم التواصي بالحق والتواصي بالصبر المأمور به والذي علق عيه النجاة من الخسران ، ومعلوم أن التواصي يكون من الجانبين فالفرد موص لغيره وموصى من غيره ، فإذا صارت هذه الصفات السبع منهجا حياتيا في المجتمع المسلم فإن فرج الله قريب برفع البلاء عنهم ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .