جائحة كورونا وأثرها على العقود
كثر الحديث في هذه الأيام عن الظروف الطارئة أو القوة القاهرة أو الجوائح؛ وذلك بسبب الآثار المترتبة على جائحة كورونا التي اجتاحت العالم وسببت ركوداً -بل أشبه بالتعطل- في كثير من المجالات الاقتصادية، والحقيقة أن بين هذه المصطلحات بعض الفوارق من وجهة النظر الفقهية فهي على ترتيبها (الظرف الطارئ – القوة القاهرة ثم الجوائح) من الأدنى إلى الأعلى، فالظرف الطارئ هو ما يعرف عند الفقهاء بالعذر الذي يمنع أحد العاقدين من إكمال عقده، فهو لا يتعلق بالعين المعقود عليها ولا بالأمور العامة التي تصيب الناس وإنما تتعلق بما يحصل أو حصل لأحد المتعاقدين، كمن استأجر دابه للسفر ثم عدل عن السفر لعذر، أو استأجر دكاناً ليمارس نشاطاً معيناً ثم عدل الفكرة من أصلها لعدم توفر رأس المال ونحو ذلك .
وأما القوة القاهرة فتأتي بعد الظرف الطارئ من حيث القوة؛ فهي ما كان يتعلق بأمر خارج عن العاقد بشكل خاص به؛ إلا أنها ليس لها من العموم -حقيقة أو حكماً- ما يلحقها بالجوائح مثل موت الراكب المستأجر للدابة أو لوسيلة النقل فهو خاص بالعاقد الذي عينه العقد أداة للانتفاع بالعقد، وكذلك مثل تلف العين المعقود عليها أو ارتفاع مؤنة النقل بشكل خارج عن العادة، أو انعدام المسلم فيه وقت التسليم في عقد السلم أو اتخاذ الحكومة قراراً يمنع ممارسة النشاط في المكان الذي تقع فيه العين المؤجرة .
وأما الجوائح فهي ما يتعلق بالأمور العامة حقيقة أو حكماً التي تصيب الناس عموماً مما لا يمكن تضمينه آدمياً عقلاً أو عادة ؛ مثل الفيضانات والزلازل والبراكين والأوبئة ونحو ذلك فكلها من الكوارث العامة التي تؤثر على تسليم المعقود عليه أو بعضه ولا يمكن تضمين الآدمي فيه، ومثل الحروب وهجوم قطاع الطرق على قوافل الحجاج قديما فكلها لا يمكن تضمين الآدمي فيها عادة، وكذلك الآفة الزراعية التي تُتلف المحصول وهي وإن كانت خاصة بمُزارع فرد إلا أن لها حكم العموم لكونها غالبا تعم وكل مزارع عرضة لها فلها بهذا الوصف حكم العموم .
وعند دارسي القانون فهذه المصطلحات الثلاث شبه متحدة؛ خاصة عند من يقول بمراعاة الأدنى منها ( الظرف الطارئ ) حيث لا يفرق بين الظرف الطارئ أو العذر وبين القوة القاهرة ولا الجائحة ؛ لأن الحكم فيها سواء فيسمى هذه بهذه لاتحاد الحكم فيها، إلا أن فقهاء الشريعة فرقوا بينها حيث ناقشوا موضوع الفسخ بالعذر( وهو ما يوازي الظرف الطارئ ) بشكل مستقل، وفي اعتبار أثره خلاف مشهور بين الجمهور والحنفية ، وكذلك ناقشوا موضوع التعذر (وهو ما يوازي القوة القاهرة) في أبواب المعاملات في البيع والاجارة والسلم بشكل مستقل ولهم عند التعذر مباحثات عظيمة يعرفها أهل الاختصاص، وأما موضوع الجوائح فله استقلاليته من حيث النظر الفقهي عند الفقهاء المتقدمين والمتأخرين على حد سواء.
وأشير هنا إلى أنني لاحظت أن بعض من أدلى بدلوه في هذا الموضوع وناقش الوجهة القانونية في الظرف الطارئ خلط بين الظرف الطارئ في العقود المدنية والتجارية وبين الظرف الطارئ في العقود الإدارية وعقود العمل النظامية، وهذا في غير محله حيث إن للعقود الإدارية والعمالية خصوصيتها التي يمتنع معها نقلها إلى العقود التجارية والمدنية فلينتبه لذلك لأن هذا الخلط في المقدمات سيؤدي غالبا إلى خلل في النتائج.
والذي يظهر لنا أن القانون المدني والتجاري لم يكن له من السعة أو التفصيل ما ذكرناه عن فقهاء الشريعة، حيث يرى متخصصو القانون أن الظرف الطارئ هو ما يحصل للعقد من حوادث استثنائية عامة غير متوقعة بحيث يصبح التزام المدين مرهقاً وإن كان لا يصل إلى مرحلة المستحيل ويجعلونه معتبراً بثلاثة شروط هي أ/ أن يكون عاماً وغير متوقع ولا يمكن دفعه أو تفاديه، ب/ أن يحصل بعد إبرام العقد وقبل تنفيذه ، ج/ أن يصبح تنفيذ الالتزام مرهقاً للعاقد، وبهذا فلا يدخل في الظرف الطارئ عند القانونيين ما يسمى عند الفقهاء بالعذر لعدم العموم فيه بل ولا التعذر في كثير من صوره لنفس السبب.
وأما عند فقهاء الشريعة فخلاصة قولهم في العذر أنه إن كان مؤثراً في العاقد فلا عبره به في قول الجمهور – خلافا للحنفية الذين يجيزون فسخ العقد للعذر – فلا يفسخ جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية وأصحابنا الحنابلة العقود للعذر إذا كان العذر متعلقا بالعاقد ولا يعدلونها -وإن كانوا يجعلون الإقالة سنة ومرغب فيها- أما إن كان العذر متعلقاً بالمعقود عليه؛ كمن باع ثمرة ثم أصابتها جائحة بعد البيع وقبل التسليم فتلفت فإن البيع يفسخ ولو كانت الجائحة خاصة إن كانت بنحو مرض أصاب هذه الثمرة دون غيرها من الثمار، ويلحق بهذه الصورة عدم حضور الحجاج بسبب قطع الطريق فإن المستأجر يستحق فسخ العقد؛ لكون العذر ليس متعلقاً به وإنما يتعلق بأمر خارج هو في الواقع أقرب إلى العين المعقود عليها لكون الأجرة تستحق بمقابل تسكين الحجاج أو الزوار في الفندق أو المنزل، والحجاج لم يأتوا لسبب خارج عن العاقد ( المستأجر ) فيتعين قبول تأثير هذا العذر على العقد بالفسخ أو التعديل.
وأما يتعلق بالقوة القاهرة أو ما يعرف عند الفقهاء بالتعذر؛ كتعذر تسليم المسلم فيه في وقت الأجل حيث يجعل الفقهاء للمسلم (المشتري) الخيار بين أن يفسخ العقد ويرجع بالثمن أو أن ينتظر لحين وجود العين، ولأن القوة القاهرة هنا ليس لها من العموم ما يجعلها مثل الجائحة فيتعين أن نفرق بينهما في الحكم حيث تنصب مهمة القضاء في التحقق من التعذر أو القوة القاهرة وأن ذلك ليس بسبب العاقد، فإن تبين ذلك فإن قواعد الشريعة جاءت بدفع الضرر ورفعه، ورفع الحرج والمشقة، وهي كلها قواعد من قطعيات الشريعة يتعين إعمالها مع تقدير أثرها بما يتناسب مع كل حالة على حده.
وأما الجوائح فإن لها من العموم ما يخرجها عن الصنفين السابقين وأصلها ما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر قال (أمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح) وهي كما تقدم: الأمور العامة حقيقة أو حكما التي يتأثر فيها أغلب الناس ويتعذر معها تحصيل المعقود عليه أو بعضه، ووضعها هو إعمال أثرها بأن لا يأخذ العاقد إلا ما يقابل ما بذل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لِمَ تأخذ مال أخيك بغير حقه) ، فعلى القاضي أن يكلف أهل الخبرة للتحقق من وجود أثر الجائحة على مدعي الضرر وتحديد مقدار النقص في العين المعقود عليها أو منفعتها وخصم قسط هذا النقص من إجمالي الثمن أو الأجرة؛ ليكون ما يأخذه العاقد بمقابل ما استوفاه من العين أو المنفعة وأما ما ذهب بالجائحة فلا يحق للعاقد أخذه.
وبناءً على ما تقدم فإن جائحة كورونا هي من قبيل القسم الثالث؛ وهي مستحقة للمراعاة وفق أحكام الشريعة الإسلامية بل وفي القوانين المتداولة بين الناس، وأما عن طريق إعمالها فهو بما يحقق الأصل العام (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)، وذلك بإعادة التوازن إلى العقد فلا يتضرر أي طرف بأكثر مما يترتب عليه بسبب الجائحة ولتوضيح ذلك نقول:
إن العقود التي بين الناس فيما يتعلق بالجائحة على نوعين:
أحدها؛ العقود التي ذكر فيه النص على القوة القاهرة أو الظرف الطارئ أو الجائحة والعذر وذُكر في العقد طريقة التعامل مع ذلك الظرف وفي هذه الحالة يعمل ما ذكره العاقدان مالم يتضمن تحليل حرام كأن ينص في العقد على أنه لا عبرة بالجائحة فإن هذا الشرط فاسد ولا عبرة به.
الثاني؛ العقود التي لم ينص فيها على أحكام الظرف الطارئ أو الجائحة فيتعين على القضاء أن يفصل في إعمال أثر الجائحة بأن يندب القاضي أهل خبرة لتحديد مقدار الضرر بالنسبة من إجمالي العين أو منفعتها، فإذا ذكروا على سبيل المثال أنه بسبب الجائحة ذهب نصف المعقود عليه أو ربعه فيخصم ذلك من المسمى الذي تعاقد عليه الطرفان وهكذا، فإذا كان العقد إجارة لعين بمكة المكرمة مثلا وتعطلت بسبب الجائحة من شهر شعبان إلى شهر ذي الحجة فقد يقال بذهاب ثلاثة أرباع المنفعة هذه السنة؛ فتخصم من الأجرة المسماة في عقد الطرفين.
ومما يؤكد عليه أن بعض المستأجرين قد يطلبوا فسخ العقد وتقدير أجرة المثل بعد أن يستوفوا المنفعة، وهذا لا وجه له؛ فإنه باستيفاء المنفعة ولو منقوصة ليس للقاضي النظر في طلب الفسخ لتعذر الاستيفاء وإنما ينظر القاضي في طلب المستأجر الفسخ إذا سلم العين حقيقة أو حكماً، أما إذا أبقى العين بيده فينحصر نظر القاضي في تقدير المخصوم من الأجرة بسبب الجائحة فقط حتى لا يجمع للمستأجر بين حيازة العين وإبطال استحقاق المؤجر للأجرة.
والذي نوصي به في جائحة كورونا ألا يترك هذا الموضوع المهم لاجتهادات القضاة في المحاكم ولجان الخبرة، وأن يندب ولي أمر المسلمين أهل خبرة في كل بلدة لتحديد مقدار أثر الجائحة على النشاطات المختلفة حيث إن بعض النشاطات زادت مع الجائحة ولم تقل إيراداتها فلا تستحق الخصم، وإذا تم تشكيل لجنة من الجهات المعنية ومن خبراء السوق فإنهم سيصلون إلى رأي محدد يحقق العدالة ويرفع الضرر عن الجميع ويقلل النزاعات لأن الكثير سيقبلون به مباشرة دون التوجه للمحاكم.
وكتبه : د. سليمان بن صالح الخميس
جدة ٦/٨/١٤٤١هـ